فرق كبير يظهر للمتأمل المقارن بين ما عليه أحوال السلف
من التبكير إلى الصلاة ، والحرص على إدراك تكبيرة الإحرام
والصف الأول ، بل ومجيئهم إلى الصلاة قبل سماع الأذان ،
وما عليه حالنا اليوم من التأخر في الصلوات والتثاقل عن القيام
إليها والتكاسل في التبكير إلى الصف الأول ، بل وفوات كثير
من الصلوات جماعةً ، لا لسبب سوى التراخي والتسويف
والكسل وعدم إدراك فضيلة التبكير إلى الصلاة .
من هنا كانت هذه الكلمات ؛ لندرك من خلالها فضل التبكير
إلى الصلاة ، وحال السلف في ذلك ، لعلها تحرك ساكن
النفوس وتبعث الهمم .
التبكير إلى الصلاة والمبادرة إلى المسجد وانتظار إقامة الصلاة
والاشتغال بالذكر والقراءة والنوافل من أسباب المغفرة ومن أعظم
الخيرات ، وهو دليل على تعظيم الصلاة وتعلق القلب بالمسجد ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ولو يعلمون ما في التهجير
لاستبقوا إليه ...) [رواه البخاري] والتهجير : التبكير إلى الصلاة
وللتبكير إلى الصلاة فوائد ، منها :
1- أن منتظر الصلاة لا يزال في صلاة ما انتظرها ،
قال عليه الصلاة والسلام (لا يزال أحدكم في صلاة
ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة)
[متفق عليه]
2- أن الذي ينتظر الصلاة تصلّي عليه الملائكة وتدعو له بالمغفرة
والرحمة ما دام في مصلاه ما لم يحدث أو يؤذِ ،
قال عليه الصلاة والسلام ( الملائكة تصلّي على أحدكم
مادام في مصلاّه ما لم يحدث اللهم اغفر له اللهم ارحمه)
متفق عليه .
وفي رواية للبخاري (ما لم يحدث فيه وما لم يؤذ فيه)
3- أن انتظار الصلاة بعد الصلاة سبب في محو الخطايا
ورفع الدرجات وهو من الرباط ، قال عليه الصلاة والسلام :
(ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات)؟
قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (إسباغ الوضوء على المكاره ،
وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ،
فذلكم الرباط فذلكم الرباط) [رواه مسلم] .
4- أن في التبكير إلى المسجد ضمان لإدراك صلاة الجماعة
التي تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة
كما في حديث ابن عمر المتفق عليه .
5- أن المبكّر إلى المسجد يدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام ،
وقد قال عليه الصلاة والسلام : (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة
يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق)
[ رواه الترمذي ، وحسنه ابن مفلح و الألباني] .
6- أن المبكر إلى الصلاة يدرك الصف الأول ، الذي قال عنه _
صلى الله عليه وسلم _ : (لو يعلم الناس ما في النداء
والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)
[متفق عليه] . وقوله (يستهموا) أي يضربوا قرعة .
وقال عليه الصلاة والسلام : (خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها)
[رواه مسلم] . وقال أيضا (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدّم)
[رواه النسائي] ، ورواه ابن ماجه بلفظ (الصف الأول) وصححه الألباني ،
وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر للصف المقدّم ثلاثا وللثاني مرّة ،
[رواه أحمد وصححه الألبانيٍ]
7- إدراك ميمنة الصفّ ، وقد قال عليه الصلاة والسلام
(إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف)
[رواه أبو داود ، وحسنه ابن حجر في الفتح]
8- إن المبكر إلى المسجد يتمكن من الإتيان بالنوافل المشروعة
بين الأذان والإقامة والسنن الرواتب القبلية
9- أن المبادرة إلى الصلاة دليل على تعلّق القلب بالمسجد ،
وقد قال عليه الصلاة والسلام : (سبعة يظلهم الله في ظله يوم
لا ظلّ إلا ظلّه ، فذكر منهم: ورجل معلّق قلبه بالمسجد إذا خرج منه
حتى يعود إليه) [متفق عليه واللفظ لمسلم] .
10- أن التبكير إلى المسجد وانتظار الصلاة سبب في حضور القلب
في الصلاة وإقبال المرء على صلاته وخشوعه فيها
11- أن المبكر إلى الصلاة يتمكن من الدعاء بين الأذان والإقامة
فكل دعاء بينهما مستجاب ، كما يتمكن من الإتيان
بأذكار الصباح والمساء في وقت الفجر والمغرب .
12- أن من يأتي مبكراً يحضر إلى الصلاة بسكينة ووقار ،
فيكون ممتثلاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بخلاف المتأخر
فإنه غالبا يأتي مسرعاً مستعجلاً
هذه بعض فوائد التبكير إلى الصلاة ، والتي أدركها سلفنا الصالح
فكانوا يبادرون إلى الصف الأول وإدارك التكبيرة الأولى
وهاك أخي الفاضل صوراً من حرص سلفنا الصالح
على التبكير إلى الصلوات :
قال ربيعة بن يزيد : ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة
إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضًا أو مسافرًا
[السير 5/240]
وقال يحيى بن معين عن يحيى بن سعيد : إنه لم يفته الزوال
في المسجد أربعين سنة [السير 9/181]
وقال سعيد بن المسيب: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة
وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة
[وفيات الأعيان 2/375]
ونقل ابن سعد عنه أنه قال: ما سمعت تأذيناً في أهلي منذ ثلاثين سنة
[الطبقات 5/131]
وقال وكيع بن الجراح: كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة
لم تفته التكبيرة الأولى [تذكرة الحفاظ 1/154]
وبعض السلف لم تفته التكبيرة الأولى مع الإمام إلا في يوم واحد
منذ أربعين سنة ولعذر ، فقد قال ابن سماعة : مكثت أربعين سنة
لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي [السير 10/646]
وعن استعدادهم للصلاة :
قال عدي بن حاتم : ما جاء وقت الصلاة إلا وأنا إليها بالأشواق،
وما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا لها مستعد [الزهد/249]
وذكر الحافظ الذهبي عنه أنه قال: ما أقيمت الصلاة منذ أسلم
ت إلا وأنا على وضوء [السير 3/164]
وقال سفيان بن عيينة: إن من توقير الصلاة أن تأتي
قبل الإقامة [صفة الصفوة 2/235]
وهذا إبراهيم بن ميمون المروزي أحد الدعاة المحدثين الثقات
من أصحاب عطاء بن أبي رباح، وكانت مهنته الصياغة
وطرق الذهب والفضة ، قال ابن معين: (كان إذا رفع المطرقة فسمع
النداء لم يردّها) [تهذيب التهذيب1/151]
وقد حث سفيان بن عيينة على السير إلى الصلاة حتى قبل النداء
فقال: لا تكن مثل عبد السوء لا يأتي حتى يدعى ائت الصلاة قبل النداء
[التبصرة 1/137]
وإذا كان هذا ما عرفناه من اهتمامهم بالصلاة وبتكبيرة الإحرام
خصوصًا، فلا غرابة إذا قال إبراهيم النخعي: إذا رأيت الرجل يتهاون
بالتكبيرة الأولى فاغسل يديك منه [صفة الصفوة 3/88]
* هذه بعض الصور من حرص أولئك السلف على التبكير
إلى الصلاة وإدراك التكبيرة الأولى ، فكيف كانت أحوالهم
إذا فاتت أحداً منهم صلاة الجماعة مع شدة
عنايتهم بها واستعدادهم لها ؟
قال قاضي الشام سليمان بن حمزة المقدسي: لم أصل الفريضة
منفردًا إلا مرتين وكأني لم أصلهما قط، مع أنه قارب التسعين
[ذيل طبقات الحنابلة 2/365]
وكانوا يتألمون لفوات هذا الخير العظيم والأجر الجزيل
قال محمد بن المبارك الصوري: كان سعيد بن عبد العزيز
إذا فاتته صلاة الجماعة بكى [تذكرة الحفاظ 1/219]
ولم تكن صلاة الجماعة تعدل عندهم شيئًا من أمور الدنيا
التي أصبحنا نلهث وراءها وربما نؤخر الصلاة من أجلها،
فقد أتى ميمون بن مهران المسجد فقيل له: إن الناس
قد انصرفوا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لفضل هذه الصلاة
أحب إلي من ولاية العراق [مكاشفة القلوب/364]
قال يونس بن عبد الله: ما لي تضيع لي الدجاجة فأجد لها
وتفوتني الصلاة فلا أجد لها ؟!! [صفة الصفوة 3/307]
وقال حاتم الأصم قال: فاتتني الصلاة في الجماعة
فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني
أكثر من عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس
من مصيبة الدنيا [مكاشفة القلوب/364]
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا من أهل التبكير
والصفوف الأولى وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل
|