ما كاد التابعيّ الجليل وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ينفض يديه من تراب قبر سلفه سليمان بن عبد الملك ، سلفه الخليفة سليمان بن عبد الملك توفّي ، وليّ العهد الخليفة من بعده عمر بن عبد العزيز ، بعدما انتهى من مراسم الدَّفن ، ونفض يديه من تراب قبره حتى سمع للأرض من حوله رجَّةً – ضجيج - فقال ما هذه ؟ فقالوا : هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قد أُعِدَّت لك لِتَرْكَبها ، فنظر إليها عمر بِطَرف عينه ، وقال بصوته المتهدّج الذي أنهكه التَّعَب وأدبره السفر : ما لي ولها ، نَحُّوها عنِّي بارك الله فيكم ! وقرِّبوا إليّ بغلتي فإنَّ لي فيها بلاغًا ؛ أي متعوِّد عليها ، ثمّ إنَّه ما كاد يستوي على ظهر البغلة حتى جاء صاحب الشُّرطة لِيَمشي بين يديه ومعه رِجاله الذين اصطفوا عن يمينه وعن شماله ، وفي أيديهم الحراب اللامعة ، فالْتَفَتَ إليه وقال : ما لي بك وبهم حاجة ، فما أنا إلا رجل من المسلمين أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون ، ثمَّ سار وسار الناس معه حتى دخل سيّدنا عمر المسجد ، ونودي في الناس : الصلاة جامعة الصلاة جامعة ، فتسايَلَ الناس على المسجد من كلّ ناحيَة ، فلمَّا اكْتملَت جموعهم قام فيها خطيبًا ، فحمِدَ الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيّه صلى الله عليه وسلّم ، ثمَّ قال : " أيّها الناس إنِّي قد ابْتُليتُ بهذا الأمر - رآه بلْوى ، وبلاءً من الله عز وجل - على غير رأيٍ منِّي - طبعًا سليمان بن عبد الملك عقد أمراً وما أطْلعَ عليه أحد قال: إذا متُّ افتحوا هذا الكتاب تعرفوا مَن الذي سيأتي من بعدي - فقال : إني قد ابْتُليتُ بهذا الأمر على غير رأي منّي فيه ، ولا طلبٍ له ، ولا مشورة من المسلمين ، وإنِّي خلعْت ما في أعناقكم من بيْعتي ، فاختاروا لأنفسكم خليفةً ترضونه ، فصاح الناس صيْحةً واحدة : قد اخْترْناك يا أمير المؤمنين ، ورضينا بك فَلِي أمرنا باليُمْن والبركة " فلمّا رأى الأصوات قد هدأت ، والقلوب قد اطمأنَّت حمد الله كرَّةً أخرى ، وأثنى عليه ، وصلى على سيّدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم ، وطفق يحضّ الناس على التقوى ، ويزهِّدهم في الدنيا ، ويرغّبهم في الآخرة ، ويذكّرهم بالموت بلهْجةً تسْتلين القلوب القاسيَة ، وتسْتدرّ الدموع العاصِيَة ، وتخرج من فؤاد صاحبها ، وتستقرّ في فؤاد السامعين ، ثمّ رفع صوته المتْعب حتى أسْمع الناس جميعًا وقال : " من أطاع الله وجَبَت طاعته ، ومن عصا الله فلا طاعة له على أحد ، أيّها الناس أطيعوني ما أطعْت الله فيكم فإن عصَيْت الله فلا طاعة لي عليكم " ثمَّ نزل عن المنبر واتَّجَهَ إلى بيته ، وآوى إلى حجرته ، فقد كان يبتغي أن يصيب ساعةً من الراحة بعد ذلك الجهد الجاهد الذي كان فيه منذ وفاة الخليفة ، يظهر انَّه بذل جهدُا جهيدًا أضْناه ، بعدما ألقى هذه الخطبة السريعة نزل إلى بيته ليَسْتريح .
لكنّ عمر بن عبد العزيز ما كاد يسْلم جنْبهُ إلى مَضْجعه حتى أقبل عليه ابنه عبد الملك ، وكان يومئذٍ يتَّجِه نحو السابعة عشرة من عمره ، وقال : ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أيْ بُنيّ أريد أن أغفَلَ فلم تبق في جسدي طاقة ! فقال : أتغْفو قبل أن تردّ المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين ؟! فقال : أيْ بنيّ ، إنِّي قد سهرت البارحة في عمّك سليمان وإنِّي إذا حان الظهر صلَّيْت في الناس ، ورددْت المظالم إلى أهلها إن شاء الله ، فقال ابنه : ومن لك يا أمير المؤمنين لأن تعيش إلى الظهر ؟ هل تضمن العيش ؟ فأْهبَت هذه الكلمة عزيمة عمر ، وأطارَت النَّوْم من عَيْنيه ، وبعثَت القوَّة والعزم في جسده ، وقال : اُدْن منِّي أيْ بُنيّ ، فدنا منه فضمَّه إليه ، وقبَّلَ ما بين عينيه ، وقال : الحمد لله الذي أخرج من صُلْبي من يُعينني على ديني ، والله إذا الواحد أخرج له من صلْبهِ من يُعينه على دينه ، بابا قُم فصَلِّ الصُّبح ، وأحيانًا توقظه ابنته ، لا بدّ أن يذوبَ خجلاً من الله أن بعث له طفلاً يعينه على أمر دينه .
بكى سيّدنا عمر ، ثمّ قام وأمر في الناس أن يُنادَى : ألا من كانت له مظلمةٌ فلْيرْفَع - لم ينَم - فمن عبد الملك هذا ؟ وما خبر هذا الفتى الذي قال عنه الناس : إنَّه هو الذي أدخل أباه في العبادة ! وسلكه مسالك الزهاد .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك