يعد الإثبات بالكتابة من أهم وسائل الإثبات، فللكتابة في النظم الوضعية شأن كبير، ولها الأولوية والأفضلية على سائر الأدلة الأخرى متى ثبتت رسمياً، وقد لا يقبل معها دليل آخر( )؛ وذلك لأن الكتابة يمكن عن طريقها إثبات جميع تفاصيل التصرف القانوني وجزئياته، بخلاف الأدلة الأخرى كالشهادة ونحوها، فيصعب الركون إلى ذاكرة الشهود في تحديد تفاصيل التصرفات القانونية؛ لأن ذاكرتهم قد يعتريها النسيان، وقد تتغير أمانتهم ( ) وهذا الأمر منتف في الكتابة.
وتتميز الكتابة عن طرق الإثبات الأخرى في أنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن إعدادها بصورة مسبقة عن وقوع النزاع، وعادة ما يكون ذلك وقت إنشاء التصرف( ).
وتنقسم الكتابة بوصفها دليلاً للإثبات إلى نوعين: رسمية وغير رسمية.
فالكتابة الرسمية هي التي يصدرها موظف عام، أو مأمور عمومي أو شخص مكلف بخدمة عامة، في حدود سلطته واختصاصاته وطبقاً للشكل التي يقتضيه القانون( ).
من خلال التعريف السابق تتضح لنا الشروط التي يجب توافرها في الأوراق الرسمية وهي:
1- صدور الورقة من موظف عام أو من شخص مكلف بخدمة عامة.
2- أن يكون تحرير الورقة طبقاً للصورة التي يقتضيها النظام.
3- أن يكون الموظف العام مختصاً بما قام به اختصاصاً موضوعياً، ومكانياً، وزمانياً ( ).
فمتى فقدت الورقة الرسمية شرطاً من الشروط السابقة، فإن حجيتها تنتفي كدليل رسمي، ويصبح لها ما للورقة غير الرسمية من قوة الإثبات( ).
- حجية الورقة الرسمية:
((تقرر القوانين في جملتها حجية مطلقة للسند الرسمي على الناس كافة، ثم تفصل هذه الحجية على نحو قد تختلف في تفاصيله، وإن اتفقت في مضمونه إلى حد كبير))( ).
فالورقة الرسمية حجة على الناس كافة، أي فيما بين المتعاقدين، وكذلك في مواجهة الغير، ولا يجوز لذوي الشأن أو الغير نقض الحجية للورقة الرسمية إلا بالطعن فيها بالتزوير، وللصور نفس الحجية متى صدقت بالختم والتوقيع من موظف مختص بنفس الشروط المتقدمة متى قرر مطابقتها للأصل( ).
ولكن ينبغي التنبه إلى أن الورقة الرسمية لا تتمتع بهذه الحجية إلا إذا توافرت فيها الشروط السابقة( ).
- الكتابة غير الرسمية:
هي الكتابة الصادرة من الأفراد، دون أن يتدخل في تحريرها موظف رسمي، أو شخص مكلف بخدمة عامة( ).
ويسمى بالمحرر العرفي أو المحرر العادي، وهي نوعان:
أ- نوع معد للإثبات مسبقاً، ليكون وسيلة للإثبات فيما قد يثور من منازعات حول مضمونها، ولذلك تكون موقعة ممن هي حجة عليه، وتسمى بالأوراق العرفية المهيأة للإثبات.
ب- ونوع غير معد للإثبات، أي لم ينظر عند كتابتها إلى استخدامها في الإثبات.
ولكلٍ من النوعين قيمة في الإثبات تختلف عن الأخرى( ).
ويشترط في الأوراق غير الرسمية حتى تصبح حجة أن تكون مكتوبة، وهذا شرط بدهي، ولا يشترط في الكتابة شكل معين، كما يشترط في الأوراق غير الرسمية حتى تكتسب الحجة المقررة لها نظاماً أن تكون موقعة ممن صدرت منه( ).
- حجية الأوراق غير الرسمية:-
أ- فالنوع الأول، وهي الأوراق المعدة للإثبات إذا توفرت فيها الشروط فهي حجة ضد من صدرت منه الورقة، ما لم ينكر صراحة ما نسب إليه في الورقة من خط أو توقيع أو ختم أو بصمة أصبع، وعند إنكاره يجري التحقيق لإثبات صحتها من عدمه. فمتى ثبتت صحتها، اكتسبت القوة، وصارت حجة فيما تضمنته على من صدرت منه.
وأما حجية هذه الأوراق بالنسبة للغير وهم كل شخص يمكن أن يحتج عليه بهذه الأوراق غير الرسمية فتتضرر حقوقه، كالدائن والمرتهن، والوكيل ونحوهم.
فهي مثل حجية هذه الأوراق بين أطرافها فيما عدا التاريخ الذي تحمله الورقة فتشترط بعض النظم لحجية الورقة الموقعة على غير أطرافها أن يكون لها تاريخ ثابت.
ب- أما النوع الثاني، وهي الأوراق غير المعدة للإثبات:-
فتنقسم إلى قسمين: قسم قد يكون موقعاً عليها كالرسائل ونحوها، وقسم لا يوقع عليها كدفاتر التجار ونحوها. فأما القسم الأول فله نفس حجية الأوراق المعدة للإثبات على نحو ما ذكر، فهي حجة حتى ينكر إرسالها أو مضمونها( ).
وأما القسم الثاني، كدفاتر التجار ونحوها، فيخضع الإثبات بها لسلطة تقديرية للقاضي، وينبغي أن يلاحظ أن هذه الدفاتر لها الحجية الكاملة بين التجار أنفسهم بشرط أن تكون منظمة، أما بالنسبة لغير التجار، فلا يحتج بها في مواجهتهم إلا في نطاق ضيق محدود( ).
الفرع الثاني
الإثبات بالكتابة في الفقه
((اتفق الفقهاء والمحدثون على جواز الاعتماد على الخط والكتابة في نقل الحديث والروايات التي حفظها الراوي عنده للتحديث منها، والنقل عنها وفي تدوين الأحكام الشرعية والقواعد الفقهية، وتدوين الحديث، ولو لم يعتمد على ذلك لضاع الإسلام بضياع السنة الصحيحة والأحكام الفقهية التي نقلت لنا خلفاً عن سلف بطريق الكتابة)) ( ).
وأما الاعتماد على الكتابة كوسيلة من وسائل الإثبات، فالراجح من أقوال أهل العلم اعتمادها طريقاً من طرق الإثبات الشرعية، لا سيما مع فساد الزمان ، وضعف الأمانة، وانتشار الكذب والتزوير، الذي من شأنه أن يقلل من حجية الشهادة.
وأما استدلال المانعون من اعتبار الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات االشرعية بقولهم: أن الخطوط تتشابه، بحيث يصعب تمييزها، كما أن الخط والكتابة يحتمل التزوير وهذه الاحتمالات تضعف من قوة الكتابة في إثبات الحقوق. فيجاب عنه: بأن هذا الأمر إن كان مسلماً به في السابق إلا أنه وجد في العصر الحديث من الآلات ما يمكن به كشف التزوير إن وجد( ).
ومن السنة:
2- حديث ابن عمر أن رسول الله قال: ((ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)) ( ).
فالنبي حث في هذا الحديث على كتابة الوصية، وهذا يستلزم الاعتماد على الكتابة في الإثبات( ).
3- ومن المعقول: فإن عدم اعتبار الكتابة في الإثبات يؤدي إلى الحرج والمشقة والشريعة جاءت بنفي الحرج والمشقة ، كما يؤدي عدم اعتبارها إلى ضياع الحقوق، لاسيما مع ضعف الدَّين وفساد الزمان وقلة الأمانة، ولأنه يتعذر أحياناً الإشهاد على الحقوق لأسباب متعددة( ).
ومن هذه الأدلة التي ذكرت يتبين لنا رجحان من قال باعتبار الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعاً.
أما بالنسبة لما ذكره القانونيون من تقسيم الأوراق المكتوبة إلى رسمية وغير رسمية وأن المستندات الرسمية حجة فلا مانع منه شرعاً؛ لأن مصلحة الجماعة تقضي باعتبار المستند الرسمي حجة يعتمد عليها في الإثبات محافظة على الحقوق من الأموال وغيرها، لاسيما وأن المستندات الرسمية أعمال صادرة عن ولي الأمر أو نوابه وأما الأوراق غير الرسمية فهي حجة قاصرة على طرفي التعامل بشرط أن يثبت صدروها عن المقر بالطرق الشرعية( ).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك