لم يكن في مكة نفاق، وإنما كان الكفر والإيمان، ولَمَّا هاجر عليه الصلاة والسلام، وأقام دولة الإسلام، وكان في المدينة اليهود وبعض المشركين، فأقاموا حلفًا ضد الدولة الإسلامية الناشئة، ومن هنا نشأ النفاق، وازدادت حِدَّتُه بعد انتصار المسلمين في أول لقاء مع مشركي مكة، في غزوة بدر.
وسورة البقرة هي أول ما بدأ نزوله من القرآن في المدينة، وقد تناولت الحديث عن الطوائف الأربعة: المؤمنين - الكافرين - المنافقين ثم اليهود.
والكافرون واليهود عداوتهم واضحة، أما المنافقون فهم الأخطر على الدعوة وعلى كِيانها؛ فهم يعملون في الخفاء، ويتلونون، ولأنهم يعيشون بيننا، فنحن مطالبون بالتعامل معهم حسب ظواهرهم، والله تعالى يتولى سرائرهم.
ويتساءل البعض:
لقد كان النفاق في بداية الدولة، فهل بعد أن ظهر الدين وحكم الإسلام، ولم يَعُد للشرك دولة ولا شوكة، هل للنفاق وجود؟ ثم بعد أن تغيَّر الحال، وزالت دول الإسلام وظهر الكفر على الإسلام، وعلت قوانين الغرب، وتحاكم إليها المسلمون في أغلب الأقطار، هل للنفاق وجود؟ الذي أراه - وله عندي بعض الشواهد سأذكرها - أنه حال أن يكون للإسلام دولة وشوكة في مقابل دولة للشرك وشوكة، يظهر النفاق - خصوصًا النفاق الأكبر كما سأبين - أما إن لم يكن للإسلام دولة ولا شوكة، فلا نفاق، وإنما هو الكفر أو الإسلام كما كان الحال في مكة، فقد كانت دولة كفر تعلو فيها راية هُبَل واللات والعزى ومناة، ولم يكن للمسلمين شوكة ولا قوة يحسب لها حسابًا، أما في المدينة فقد كانت هناك قوتان يحسب لكل منهما حساب، وهنا يكون النفاق وبيئته، ورد عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما اليوم فإنه الكفر بعد الإيمان"؛ رواه البخاري.
والنفاق نوعان:
أكبر، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، وهو كالكفر أو الشرك الأكبر، وهو النفاق الاعتقادي، وهو مُخرج من الملة، ونفاق أصغر مثل الكذب في الحديث، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصام، وهي خصال المنافقين المذكورة في الأحاديث، وهو النفاق العملي، أو نفاق العمل، أو النفاق في العمل؛ كالرياء والسمعة، وحب سماع الثناء والمدح، وطلب المكانة بين الناس، وهو المسمى نفاق دون نفاق!
ومن صفات المنافقين المذكورة في السور الكريمة:
1- أنهم كاذبون: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1].
5- ﴿ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 3]، فلا يصل إلى قلوبهم هدى (آية 3)؛ قال ابن كثير: أشكالهم حسنة وذو فصاحة، وهم مع ذلك غاية في الضَّعف والخور والهلع والجزع والجبن: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ [المنافقون: 4]؛ أي: كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف، يعتقدون لجبنهم أنه نازلٌ بهم؛ (قاله ابن كثير).