والشاعر إنما يعمد إلى ذلك أما كرد فعل على حدث آني جاء في نفس اللحظة .. أو كنوع من البديع أخذ الشاعر وقتا وتفكيرا في إعداده .
وفي كثير من الاحيان سواء أكان الامر هذا أم ذاك فالشاعر إنما لجأ إلى ذلك أما خوفا من سلطان – كما هو الحال في الأمور السياسية كما فعل المتنبي في كثير من أشعاره , أو كنوع من الخوف الاجتماعي حينما يقوم بعض الشعراء بذلك وخاصة في المجتمعات المحافظة .. وكما نجد كثير من هذه الأشعار في التراث الجازاني وغيره . أو كمحاولة لإيصال رسالة ما لشخص لايود أن يعلم مغزاها غيره .
وهنا نسوق بعضا من الحكايات الطريفة التي تدل على ذلك من روائع النوادر في تراثنا . (1) .
الحكاية الأولى :
قيل أن رجلا تزوجت من غيره من كان يموت فيها عشقا .. فبكى عليها بكاء حارا , ولكن المجتمع في ذلك العصر يرى بكاء الرجل عار عليه .. فما بالك إن كان من أجل امرأة , لذا فقد قيل عنه الكثير ... وسبق وتحد ث صديقين فيما بينهما في أمره .. فتصادف أن رافقها هذا الرجل ذات مرة في طريق ,,, فاحب أحد الصديقين أن يخبر صاحبه أن هذا الرجل هو بعينه الذي بكى من أجل من احب - حيث لم يكن يعرفه - .
غير أنه لم يجد فرصة لإخباره .. ولم يشأ أن يذكر الامر مراعاة لشعور الرجل , عندها أنشد قائلا :
يا كاذيَه تَسْقَى على جَالْ غَيـّال *** يا سعد مِنْهُو قد تغشْوى بِكَاذِيك
فرد صاحبه :
ونا فَهيم القول لي عينْ عَيـّان *** والعين تبكي دمعها من بِكَى ذِيك
المعنى :
الأول – ذكر أن هنالك شجرة من الكاذي بجانب وادي دائم الجريان ترتع في ذلك المكان مما يجعل ثمارها دائما رائعة , وهو يرمز لتلك المرأة التي تزوجت .. حيث رأى السعد في معية من أمتلكها أو بمعنى الشاعر : تغشوى بأغصانها , كما يفعل البدو بلف رؤوسهم بتلك الأغصان من النباتات العطرية .
ثم ذكر في نهاية المقطع ( بكاذيك ) .. وهي تحتمل معنيين , أما أن يعود الضمير لشجرة الكاذي وذلك ما قد يظنه صاحب القصة , أو إلى ذلك الرجل الذي بكى .. أي ( بكى ) و ( ذيك ) , وذيك تعني ذاك ) .
أما رد الثاني : فيعبر انه قد فهم المغزى .. فهو شديد الفهم .. ولديه عينين أشد وقعا ممن يصيبون الناس بالعين , ثم يقول انه حزين لحال الرجل .. وهو يبكى من بكائه .
ففهم الرجل الثالث ما يعنيان بذلك الشعر .. فأحب أن يخبرها أن سبب ما حدث هو فقره المدقع الذي يعيش فيه فقال :
أبكى ومن كثرة بكايا بكى امجار *** أيضا ومن كثر النوايحْ بكى أمْضيف
يا ليت بيتي جَال بيتك لكم جار *** ومن العَدَمْ قدني مروح لكم ضيف
أي : حقا فأنا أبكي من فقري , لدرجة حتى جيراني يبكون من بكائي ,, بل حتى من حل ضيفا على يبكي من حالي .
فليتني كنت جارا لكما .. وبيتينا متقابلين , ومن فقري المدقع أكاد أن أنقل ضيفي لبيتكم .
وبالطبع فالشاعر يرمز بنقل الضيف ما يعانيه من شدة فقر , حيث أن نقل الضيف لمضيف آخر من أشد العيوب في المجتمعات العربية .
==================== ===============
الحكاية الثانية :
كانت قديما مجمتعات الجزيرة العربية بصفة عامة - يختلط فيها الرجال بالنساء .. ولازال الامر على هذا النحو في كثير من الجهات البدوية , وذلك ناتج عن ظروف البيئة التي تحتم عليهم ذلك , فليس هنالك في المنزل عدد كاف من الغرف تعزل أهل البيت عن ضيوفهم .. فما هي إلا حجرة أو اثنتين .. وعادة ما يتم الطبخ بجانب البيت في الخلاء .
كما يلتقي الرعاة من الجنسين في أماكن الرعي .. وفي المزارع حيث يعمل الرجال والنساء معا , وكل ذلك كما أسلفت نتيجة لظرف المعيشة التي يحيونها .
ذات مرة جاء أحد الأشخاص مع صديق له إلى منزلهم .. فرأى الضيف أخت ذلك الصديق فوقعت في قلبه كما وقعت هي أيضا في غرامه .
وقد قيل ( الهوى فضاح ) .. والعيون هي أكثر الحواس بوحا بما يجول في النفس .. وكم قاوم الرجل ولكن لا فائدة .
فمهما حاول العاشق إخفاء صبابته فلن ينجح .. عندها قال الرجل :
يا خاتم الفضه جديد ومحبوك *** ولو ريالين دخلوها محابيك
طرفي نظر طرفك وطرفك نظر بوك *** وخوك عاتب يوم اراني محابيك
أي شبه الرجل تلك المرآة بخاتم من الفضه جديد دقيق الصنعة , مثبت فيه معدن من فئة الريالين سبك فيه ببراعة .
ثم قال في البيت الثاني :
ان طرفه قد نظر في طرف تلك المرأة , فنظرت هي الأخرى لأبيها خائفة .. أما أخوها فينظر إلى الضيف عاتبا بعد أن لاحظ كل ما يجري . أو لاحظ ( محاباة ) الشاعر للفتاة .
إذا فقد أستخدم الشاعر عبارة ( محابيك ) بمعنى سباكة الفضة , وأيضا بمعنى المحاباة .
ومن الملفت للنظر في هذين البيتين هو أن الشاعر أورد عبارات فصحى واضحة جدا في شعره كقوله ( طرفي ) و( طرفه ) و( عاتب ) و ( محبوك ) بمعنييها .
==================== ===============
الحكاية الثالثة :
في أحد المناسبات القديمة في أحد البيوت في فيفاء قام الرجال لتأدية العرضات الشعبية المعروفة في تلك الديار , وبينما هم في خضم اللعب لمح أحد الشعراء أحد الفتيات فأعجب بجمالها إعجابا شديدا .. وعرف إنها إحدى بنات ذلك المنزل , وأُثناء اللعب انشد قائلا :
.................... ....... عقذ كاذٍي خشرو اجدادي *** جالت الوادي
.................... ........ صفين فروكو وأمخشر صافي
أي شبه الشاعر تلك الفتاة ( بعقذ الكاذي ) وهي تلك المجموعة من الأوراق واللب
. وان ذلك (العقذ ) - هو جانب وادٍ مما زاده جمالا , في فروكه أي ( لبه ) وأوراقه الصافية التي تدل على بياض تلك المرأة .
عندها سمعه أحد أعمام البنت وكان شاعرا أيضا وشديد الملاحظة , فرد قائلا :
.................... ....... شيح في الحيضان لو مدي *** صاحبوا مقدي
.................... .................... ...في هرجتو وأمقلب حوافي
هنا شبه عم البنت أبنة أخيه بنبات الشيح وهو نبات عطر الرائحة أيضا , والذي ترعرع في ( أحواض ) معتنى بها .. وهذا يدل بأن تلك النباتات أن لها أهل ولم تنبت في الخلاء , .. ثم قال إن غصون ذلك الشيح طويلة تدل على الاهتمام والرعاية أو عن طول تلك المرأة .
ثم يقول الشاعر : إن صاحب هذا الشيح شديد التيقظ وأصابته لا تخطئ , سواء بلسانه أو بقلبه اليقظ المقدام .
منقول بتصرف