.ذات صباح قدم على أمير المؤمنين وفدٌ من البحرين مع طائفة أخرى من الوفود، وكان الفاروق رضوان الله تعالى عليه شديد الحرص على أن يسمع كلام الوافدين عليه . سيدنا الصديق توفي, قيل: وها هي ذا وفود الأنصار، تقدم كل يوم إلى يثرب مبايِعةً خليفته الفاروق عمر بن الخطاب على السمع والطاعة، في المنشط والمكره . الحق ينبغـي أن ينتشر، ينبغـي أن يتوسع، الحق ينبغي أن يحاصِر الباطل، لا أن يحاصره الباطل
.فكان الفاروق رضوان الله تعالى عليه شديد الحرص على أن يسمع كلام الوافدين عليه، فلعله يجد فيما يقولونه موعظة بالغة، أو فكرة نافعة، أو نصيحة لله ولكتابه ولعامة المسلمين,المؤمن لا يتأبى عن نصيحة، ولا عن موعظة، ولا عن كلمة حق، المؤمن يستشير، والمؤمن يستعير عقول الآخرين، والمؤمن يتقبل الملاحظات، صدره رحب .
فالتفت إلى رجل توسم فيه الخير، وأومأ إليه, وقال: هات ما عندك، فحمد الرجل الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنك يا أمير المؤمنين، ما وليت أمر هذه الأمة إلا ابتلاء من الله عز وجل ابتلاك به، فاتَّقِ الله فيما وُلِّيتَ، واعلم أنه لو ضلّت شاة بشاطئ الفرات لسئلت عنها يوم القيامة ، فأجهش عمر بالبكاء، وقال: ما صدقني أحد منذ استخلفت كما صدقتني، فمن أنت؟ قال: أنا الربيع بن زياد الحارثي، أخو المهاجر بن زياد, قال: نعم .
فلما انفضّ المجلس، دعا عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري، وقال: تحَرَّ أمر الربيع بن زياد، فإن يك صادقاً، فإن فيه خيراً كثيراً، وعوناً لنا على هذا الأمر))
أعدَّ أبو موسى الأشعري جيشاً لفتح (مناذر)، من أرض الأهواز، بناءً على أمر الخليفة، وجعل في الجيش الربيع بن زياد، وأخاه المهاجر
حاصر أبو موسى الأشعري (مناذر)، وخاض مع أهلها معارك طاحنة، قلَّما شهدت لها الحروب نظيراً، فقد أبدى المشركون من شدّة البأس، وقوة الشكيمة ما لا يخطر على بال، وكثُر القتل في المسلمين كثرةً فاقتْ كلَّ تقدير، فلما رأى المهاجر بن ربيع بن زياد أن القتل قد كثر في صفوف المسلمين، عزم على أن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فتحنط وتكفن وأوصى أخاه .
فمضى الربيع إلى أبي موسى, وقال: إن المهاجر قد أزمع أن يشري نفسه وهو صائم، والمسلمون قد اجتمع عليهم من وطأة الحرب, وشدّة الصوم ما أوهن عزائمهم، وهم يأبون الإفطار، فافعل ما ترى .
وقف أبو موسى الأشعري، ونادى في الجيش:
((يا معشر المسلمين, عزمت على كل صائم أن يفطر، أو يكفوا عن القتال، وشرب من إبريق كان معه ليشرب الناس لشربه، فلما سمع المهاجر مقالته جرع جرعة من ماء، وقال: واللهِ ما شربتها من عطش، ولكني أبررت عزمة أميري .
امتشق حسامه، وطفق يشق الصفوف، ويجندل الرجال، غير وجل ولا هيَّاب، فلما أوغل في جيش الأعداء أطبقوا عليه من كل جانب، وتعاورته سيوفهم من أمامه ومن خلفه، حتى خرَّ صريعاً، ثم إنهم احتزُّوا رأسه، ونصبوه على شرفة مطلة على ساحة القتال، إنّه أخو الربيع، فلما نظر إليه الربيع, قال: طوبى لك وحسن مآب، واللهِ لأنتقمنَّ لك ولِقتلى المسلمين إن شاء الله، فلما رأى أبو موسى ما نزل بالربيع من الجَزَع على أخيه، وأدرك ما ثار من الحفيظة في صدره على أعداء الله تخلَّى له عن قيادة الجيش، ومضى إلى السوس لفتحها .
هَبَّ الربيعُ وجندُه على المشركين هبوبَ الإعصار، وانصبوا على معاقلهم انصباب الصخور إذا حطها السيل، فمزقوا صفوفهم، وأوهنوا بأسهم، ففتح الله (مناذر) للربيع بن زياد عُنْوةً، فقتل المقاتلة، وسَبَى الذرية، وغنم ما شاء الله أن يغنم، ومنذ هذا التاريخ لمَع نجمُه، وذاع اسمه، وتألق صيته في كل مكان))
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾
[سورة الشرح الآية: 4]
دققوا؛ هذه الآية كما يتضح لنا هي للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لكل مؤمن منها نصيب، فما من مؤمن يلزم طريق الاستقامة، وما من مؤمن يعاهد الله على طاعته، وما من مؤمن يحضر مجالس العلم، وما من مؤمن يعاهد الله ورسوله على السير في طريق الإيمان، إلا رفع الله ذكره، وأعلى شانه، ويرفعه على أقرانه، ويجعله متألقاً لامعاً، هذا من عطاء الدنيا قبل عطاء الآخرة، هذا من قوله تعالى:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾
[سورة الرحمن الآية: 46]
من يلتزم بطريق الاستقامة يرفع الله ذكره ويعلي شأنه
قال العلماء: جنَّة في الدنيا، وجنَّة في الآخرة .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك