أولًا: سبب نزولها:
قال البغوي: "كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أينما كنتَ نكُنْ معك، لئن خرجتَ خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فنزلت الآية".
ثانيًا: بيان وجه الدفاع في الآية الكريمة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء المنافقين كانوا يقولون ذلك القول كذِبًا وبُهتانًا، ومن شدة وقاحتهم لم يكتفوا بالوعد، بل أقسموا على ذلك؛ ففضح الله سرائرهم، وبيَّن خُبثَ طواياهم، وإليك بيان ذلك:
1- قوله تعالى: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ﴾ [النور: 53]؛ أي: وأقسم هؤلاء المنافقون بالأيْمَانِ الموثَّقة بأشد وسائل التوثيق، بأنهم متى أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج معه للجهاد - ليخرجنَّ سِراعًا تلبيةً لأمره، وهنا يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ردًّا كله تهكمٌ وسخرية بهم، بسبب كذبهم، فيقول:
2- قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ﴾ [النور: 53]؛ أي: قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل السخرية والزجر: لا تقسموا على ما تقولون، فإن طاعتكم معروفٌ أمرُها، ومفروغ منها، فهي طاعة باللسان فقط، أما الفعل فيكذبها، وذلك كما تقول لِمَنِ اشتهر بالكذب: لا تحلف لي على صدقك، فأمرك معروف لا يحتاج إلى قسم أو دليل.
قال العلامة ابن كثير رحمه الله: "فهم من سجيَّتِهم الكذب حتى فيما يختارونه؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [الحشر: 11، 12].
وقيل: المعنى في قوله: ﴿ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ﴾ [النور: 53]؛ أي: ليكن أمركم طاعة معروفة؛ أي: بالمعروف من غير حلف ولا إقسام، كما يطيع اللهَ ورسولَهُ المؤمنون بغير حلف، فكونوا أنتم مثلهم.
3- ﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 53]؛ أي: إن الله تعالى مطلع اطلاعًا تامًّا على ظواهركم وبواطنكم؛ فلا يحتاج منكم إلى قسم أو توكيد لأقوالكم، وقد علِم سبحانه أنكم كاذبون في حلفكم.
4- قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [النور: 54]، ثم يأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إلى الطاعة الصادقة، لا طاعتهم الكاذبة، طاعة ظاهرة وباطنة، طاعة مصحوبة بصدق الاعتقاد، وكمال الإخلاص، فإن هذه الطاعة هي المقبولة منكم.
5- وقوله سبحانه: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ﴾ [النور: 54] تحذيرٌ لهم من التمادي في نفاقهم وكذبه؛ أي: مُرْهم أيها الرسول الكريم بالطاعة الصادقة، فإن توليتم أيها المنافقون عن دعوة الحق، وأعرضتم عن الصراط المستقيم، فإن الرسول الكريم ليس عليه سوى ما حملناه إياه؛ وهو التبليغ والإنذار والتبشير، وأما أنتم فعليكم ما حُمِّلتم؛ أي: ما أُمرتم به من الطاعة له صلى الله عليه وسلم، وهو قد فعل ما كلَّفناه به، أما أنتم فحذارِ أن تستمروا في نفاقكم، ثم أرشدهم سبحانه إلى طريق الفوز والفلاح.
6- قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]؛ أي: وإن تطيعوا أيها المنافقون رسولَنا صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه، تهتدوا إلى الحق، وتظفروا بالسعادة.
7- وقوله تعالى: ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54] تذييلٌ مقرِّر لِما قبله من أن مغبة الإعراض عائدة عليهم، كما أن فائدة الطاعة راجعة لهم؛ أي: وما على الرسول الذي أرسلناه لإرشادكم إلى ما ينفعكم إلا التبليغ الواضح، والنصح الخالص، والتوجيه الحكيم.