إنَّ الفتن الملمَّة والأحداث المدلهمة إذا حلَّت بالناس ونزلت بهم
أظهرت حقائقهم وكشفت معادنهم وميَّزت طيِّبَهم من خبيثهم
وحسنهم من سيِّئهم ، ولله الحكمة البالغة في ذلك
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37] ،
وهذه من حكمة الله في ابتلائه خلقه ، قال الله تعالى :
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] .
والحياة كلها ميدان ابتلاء ودار امتحان والناس فيها ليسوا سواء
؛ فمنهم مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ
هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ، ومنهم من يعبد الله على علم وبصيرة
وإيمان راسخ وعقيدة صحيحة ؛ فإن أصابته فتنة صبر فكان
خيراً له ، وإن أصابته نعمة شكر فكان خيراً له ، وهذا
لا يكون لأحد إلا للمؤمن ، فأمره كله خير ، وأحواله كلها
حسنة طيبة ، وعواقبه كلها حميدة
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف:128] .
إنَّ للإيمان الصحيح والعقيدة السليمة أثراً قوياً ودوراً بارزاً
في التغلب على الأحداث والملمات ، والمصائب والمحن ،
والنوازل والفتن ؛ ذلك أنَّ صاحب الإيمان الصحيح والعقيدة
السليمة تعلَّم من دينه أموراً مهمة ودروساً عظيمة تُعينه على
الثبات في الأحوال ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ومن أهم هذه
الأمور ما يلي :
أولاً : أنه يعلم علم يقين لا يخالطه شك ولا يداخله ريب أنَّ خالق
هذا الكون وموجده ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له ،
وأنه وحده المتصرِّف فيه ، وأنه لا يكون فيه إلا ما شاء
تبارك وتعالى ، فأزمَّة الأمور كلها بيده ،
ومقاليد السماوات والأرض كلها له ، فما شاء الله كان ،
وما لم يشأ لم يكن ، فلله ملك السماوات والأرض وما فيهن
وهو على كل شيء قدير .
ثانياً : أن الله جل وعلا تكفَّل بنصر أهل الإيمان وحفظ أهل
الدين ، ووعد بذلك ووعده الحق ، وأخبر بذلك في كتابه
وكلامه صدق وحق ، قال الله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ }
[محمد:7-8] ، وقال سبحانه :
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
[آل عمران:126] ، وقال تعالى :
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
[الحج:40] ، وقال تعالى : {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] .
ثالثاً : أنَّ الله وعد في كتابه بخذلان الكافرين وإبادتهم
وقصم ظهورهم وقطع دابرهم وجعلهم عبرة للمعتبرين
وعظة للمتعظين كما قال تعالى :
{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة:98] .
وشواهد ذلك في التاريخ كثيرة لا تحصى وعديدة لا تُستقصى ،
فهو سبحانه يملي للظالم ولا يهمل ، وإذا أخذه أخذه بغتة
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]
رابعاً : أن المؤمن يعلم أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي
أجلها وتستتم رزقها ، فلن يموت أحد قبل منيَّته ولا بعدها
{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] ، فالآجال محدَّدة والأعمار
مؤقَّتة ، ولكل أجل كتاب ولكل نفس ميعاد ، ولا يحول بين
المرء وبين أمر الله شيء ، كما قال تعالى :
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}
[النساء:78] ، فلا القصور المنيعة تحمي ، ولا السراديب
الخفية تقي ، ولا البروج المشيدة تمنع .
خامساً : أنَّ المؤمن لشدة ثباته وقوة يقينه لا تزعزعه الأراجيف
ولا تخوِّفه الدعايات ، بل إنه إذا خوِّف بالذين من دون الله زاد
إيماناً وثقة بالله وتوكلاً واعتماداً عليه ، كمثل الصحابة
رضي الله عنهم
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا
رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
({حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ
أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا
{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})[1]
ومعنى حسبنا الله : أي كافينا .
تاااااااااااااااااااااااااااابع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
سادساً : أنَّ صاحب الإيمان الصحيح لا يعتمد في أموره كلها
إلا على الله وحده ولا يفوض أموره إلا له ولا يتوكل إلا عليه
ولا يستعين إلا به ، قال تعالى
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] ،
وقال تعالى : {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
[المائدة:23] ، وقال تعالى :
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}
[الفرقان:58]
ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه
وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول :
(اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ
وَبِكَ خَاصَمْتُ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ ) [2] .
وضرب في السيرة العطرة أروع الأمثلة وأبلغها في الثقة بالله
وشدة الاعتماد عليه ، ومن ذلك – على سبيل المثال –
ما ثبت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أَنَّهُ غَزَا
مَعَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ
الْعِضَاهِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ
النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ :
( إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ
صَلْتًا فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقُلْتُ اللَّهُ ) - ثَلَاثًا -
وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ [3]. فتأمل هذا الثبات العظيم والثقة الكاملة
بالله تعالى ، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .
سابعاً : أنَّ المؤمن يعلم أنَّ التوكل الحقيقي لا يتم إلا بأمرين
اثنين لابد منهما :
الأول : اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه -كما
قال ابن القيم رحمه الله - بحيث لا يبقى فيه اضطراب من
تشوش الأسباب ولا سكون إليها ، بل يخلع السكون إليها من
قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وهو الله . وعلامة هذا :
أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار
ما يحب منها وإقبال ما يكره ، لأن اعتماده على الله وسكونه
إليه واستناده إليه .
والثاني : إثبات الأسباب والقيام بها ، وقد كان سيد
المتوكلين وإمامهم وحامل لوائهم محمد صلى الله عليه وسلم
يقوم بفعل الأسباب وما أخلَّ بشيء منها ؛ فقد ظاهر بين
درعين يوم أحد ، واستأجر دليلاً مشركاً على دين قومه يدلُّه
على الهجرة ، وكان يدَّخر القوت لأهله ، وكان إذا سافر في
جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد معه ، وجميع أصحابه كانوا
كذلك ، فهم أولوا التوكل حقاً .
فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ، ومن اعتمد على
الأسباب لم يكن من أهل التوكل ، والأمر كما قال بعض
أهل العلم : " الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ،
ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل ، والإعراض
عن الأسباب بالكلية قدحٌ في الشرع ، وإنما التوكل والرجاء
معنى يتألَّف من موجب التوحيد والعقل والشرع " .
ثامناً : ثمَّ إنَّ المؤمن في الأمور الملمات والأحوال المدلهمات
يجد من قلبه إقبالاً شديداً على الله وانكساراً بين يديه
وخضوعاً له ، فتراه مقبلاً على الله بالدعاء والسؤال والرجاء
أن يجنِّب المسلمين الفتن ويخلِّصهم من المحن ، والله تبارك
وتعالى قريب من عباده يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم
ويغيث ملهوفهم ويجبر كسيرهم ويكشف مصيبتهم
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}
[النمل:62] ، لا أحد غيره تعالى ، فمن سأله بصدق
وإخلاص وعزيمة ورجاء أجاب دعاءه وحقَّق رجاه فهو
القريب المجيب سبحانه . ولربما انكشف ما يحلّ بالمسلمين
من بلاء وما ينزل بهم من محن بدعوة صالحة من رجل صالح
في لحظة انكسار وساعة إجابة ، فالدعاء أمره عظيم وشأنه
جليل .
والله المسؤول وحده أن يجنِّبنا والمسلمين الفتن ما ظهر
منها وما بطن ، فلا إله إلا الله وحده ، نصر عبده وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده . وصلى الله وسلَّم وبارك وأنعم على
عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
********
________________
[1] رواه البخاري (4563) .
[2] رواه البخاري (7383) ، ومسلم (2717) واللفظ له .
[3] رواه البخاري (2913) ومسلم (843)