عدد الضغطات : 9,171عدد الضغطات : 6,677عدد الضغطات : 6,396عدد الضغطات : 5,604
التميز خلال 24 ساعة
العضو المميز المراقب المميز المشرف المميز الموضوع المميز القسم المميز
قريبا
قريبا
قريبا

بقلم :
المنتدى الاسلامي العام

العودة   منتديات الحقلة > المنتدى الاسلامي > منتدى القرآن الكريم والتفسير

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: ضع بصمتك .. واترك أثراً ..~ (آخر رد :عميد القوم)       :: اللهم ... (آخر رد :السموه)       :: لـ نهتف : (يَآرَبْ )مساحة خاصه لكم لتناجون البارئ بماشئتم (آخر رد :السموه)       :: وقع ولو بكلمه (آخر رد :السموه)       :: ثرثرة الواو (آخر رد :السموه)       :: دعاء اليوم ((متجدد بإذن الله)) (آخر رد :ابو يحيى)       :: تهنئة بحلول عيد الفطر المبارك (آخر رد :ابو يحيى)       :: أبي ... (آخر رد :السموه)       :: لِ .. أَحَدُهُم ‘ ..| (آخر رد :السموه)       :: الوجه الاخر لرجل الأعمال سعد التميمي (آخر رد :محمد الجابر)      


موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
قديم 25-04-2023   #1


طالبة العلم غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1561
 تاريخ التسجيل :  20 - 06 - 2014
 أخر زيارة : 15-06-2023 (11:13 AM)
 المشاركات : 24,997 [ + ]
 التقييم :  17
 الدولهـ
Morocco
 الجنس ~
Female
 اوسمتي
وسام العطاء وسام صاحب الحضور الدائم العطاء الذهبي المسابقه الرمضانيه عطاء بلاحدود 
لوني المفضل : Green
النصر والهزيمة بين العوامل الذاتية والعوامل الغيبية



الذاتية, الغيبية, العوامل, النصر, بين, والعوامل, والهزيمة

الذاتية, الغيبية, العوامل, النصر, بين, والعوامل, والهزيمة

تفسير سورة الأنفال (الحلقة السابعة)

النصر والهزيمة بين العوامل الذاتية والعوامل الغيبية


قال الله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 41 - 52].

إن البخل خصيصة النفوس الضعيفة، والذي يبخل بماله في سبيل الله لا يجود برُوحه ولو ادَّعى؛ قال تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]؛ لذلك شجبه الوحي الكريم في المرحلة المكية بقوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 1 - 4]، وقَرَنَه بالكفر؛ بقوله عز وجل: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الماعون: 1 - 3]، وحض على الإنفاق في سياقات كثيرة من القرآن؛ منها قوله عز وجل: ﴿ وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16]، وكان من سجاياه صلى الله عليه وسلم أن يبادر بالعطاء والبذل، ولو كان به خصاصة، وقد أهدت إليه امرأة شملةً[1] منسوجة، فقالت: ((يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها عليه الصلاة والسلام محتاجًا إليها ولبِسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه؛ فاكسُنِيها! فقال: نعم، وأعطاه إياها، فقيل له: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يُسأَل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أُكفَّن فيها))، وبلغ من الحث على البذل أنْ رَبَطَ الله مناجاة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقة؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المجادلة: 12]، ثم لما شقَّ عليهم تقديم الصدقة؛ وُضعت عنهم بقوله تعالى: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 13].

لذلك جعل الله تعالى أولَ مغانم الأنصار والمهاجرين في بدر فرصةً لتدريبهم على الإنفاق والبذل في سبيل الله، وجعل ذلك فريضة لا مندوحة عنها؛ قهرًا لوازع الحرص في نفوسهم، وحماية لحقوق المستضعفين في أموالهم، وكانت بذلك آيات سورة الأنفال مدرسة متكاملة المنهج، متسقة التربية، لا تذر صغيرة ولا كبيرة من دقائق التنشئة المتينة، والبناء المتماسك، والإعداد السليم، إلا راعتْهُ بالتدرج الحكيم توجيهًا وتقويمًا وعلاجًا للحالات الاجتماعية الطارئة والمتوقعة، عتابًا مرة، أو تحذيرًا وتخويفًا من عاقبة مرة، أو استكمالًا لأحكام شرعية تقتضي الحكمة الاستدراجَ في تفهيمها، والتدريب عليها والعمل بها، تبدو هذه الظاهرة في التربية والتعليم والتنشئة من أول آية بالسورة؛ في قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1]، وقد نزلت لعلاج ما كان بين المجاهدين في بدر من الخلاف والتنافس على الغنائم بعد النصر؛ مما كشف كوامنَ مِنَ الضعف البشري، وأوجب علاجه بحزم ووضوح وشدة؛ بقوله تعالى لهم: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].

لقد لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل بتوجيه من ربه هذه الذبذباتِ التي تنبعث في النفس البشرية عند نيل المكاسب، أو عند اقتسامها والتنافس عليها، أو الحث على بذلها، ومهَّد لعلاجها؛ إذ بعث عليه الصلاة والسلام عبدالله بن جحش على رأس سرية من المهاجرين إلى وادي نخلة بين مكة والطائف، قبل بدر بشهرين، في رجب من السنة الثانية للهجرة، وكتب له كتابًا؛ قال له فيه: ((إذا سرتَ يومين، فانشره فانظر فيه، ثم امضِ لأمري الذي أمرتك به))، وكلفه بأن يخمس ما يغنَم، فيخص الرسول صلى الله عليه وسلم وقرابته واليتامى وابن السبيل بالخمس، ويقسم الأخماس الأربعة الباقية بين أفراد السرية ففعل، ثم في بدر، وقد اختصم المقاتلون حول الغنائم، فأصلح ذات بينهم وخمَّسها، وثبت في الحالين سُنته صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية، ثم في الآية الواحدة والأربعين من نفس سورة الأنفال، كرَّس الحق تعالى تشريع التخميس قرآنًا يُتلى بقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ﴾ [الأنفال: 41].

إن الأصل في استعمال كلمة "غنِم" عند العرب يعود إلى إصابة الغنم من العدو، ثم اتسع لوضع اليد على أي شيء لم يُملَك من قبل، ومنه قولهم: "غناماك أن تفعل كذا"؛ أي: غنمك وفائدتك من الشيء، أو غايتك وهدفك وما ترجوه، والغنيمة لغة: هي ما يكسبه الرجل بسعيٍ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصوم في الشتاء الغنيمةُ الباردة))، ومنه قاعدة "الغُنم بالغُرم"؛ أي: إن من ينتفع من الشيء يتحمل تكاليفه وضرره، ثم اختص من حيث كونه مصطلحًا قرآنيًّا بما أُخِذ قهرًا وغلبة من المشركين في الجهاد، و"أنَّ" في قوله تعالى: ﴿ أَنَّمَا ﴾ للتوكيد والنصب، كُتبت متصلة باسمها "ما" الموصولة، بمعنى الذي؛ أي: واعلموا أن الذي غنمتم ﴿ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنفال: 41]، قليلًا كان أو كثيرًا، ﴿ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ﴾ [الأنفال: 41]، جملة اسمية من أنَّ واسمها وخبرها في محل رفع خبر، أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]؛ أي: فإن خمسه ليس لكم، ولكنه لله سبحانه، يقسمه رسوله صلى الله عليه وسلم بين من خُصُّوا به في هذه الآية الكريمة، وهم من عيَّنهم تعالى بقوله: ﴿ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ﴾ [الأنفال: 41]، خصهم تعالى بنصيب من الخمس؛ سدًّا لحاجة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاجة أقاربه؛ لانشغاله عن الكسب وتفرغه لقيادة الأمة والجهاد في سبيل الله، مستعينًا بمن أسلم من أقاربه في أول أمره، وأولهم أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، لا سيما وقد أمر حين استرسل الوحي بدعوتهم وتجنيدهم للإسلام؛ بقوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فكان بنو هاشم[2] وبنو المطلب[3] أصلبَ الدعائم لمسيرته، وأثْبَتَ العمد وأقوى الحماة لها، دون بني عبدشمس وبني نوفل، وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمييز بني هاشم وبني المطلب بهذا النصيب؛ قال فيما رُوي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما: ((إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام))[4]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان بنو هاشم وبنو المطلب أيضًا أول المضطهدين المستضعفين في فجر الدعوة النبوية؛ إذ تعاقد مشركو قريش على ألَّا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في سقف الكعبة، وحاصروهم في شِعْبِ أبي طالب، من أسلم منهم ومن لم يسلم، باستثناء أبي جهل الذي انحاز إلى مشركي قريش، ودام الحصار ثلاث سنوات، من أول المحرم سنة سبع للبعثة النبوية، ضُيِّق عليهم أثناءها في الطعام والشراب، والكلأ والأمن، وكان منهم في صدر الدعوة الأولون من الشهداء؛ عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وحمزة بن عبدالمطلب، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم ممن خلد التاريخ ذكرهم، وعطَّرت الصحائفَ أسماؤهم.

ثم ضم الحق تعالى إليهم غيرهم من مستضعفي الأمة، فجعل لهم في هذا الخمس نصيبًا؛ بقوله عز وجل: ﴿ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [الأنفال: 41]؛ سدًّا لحاجتهم، وصونًا لكرامتهم، لا ينازَعون فيه، ولا ينكره عليهم منكر، أو يجادلهم فيه مجادل؛ كيلا تكون أموال الأمة دولة بين أغنيائها وأولي السلطة فيها، فكان بذلك تقسيم خمس الغنائم بين كل هؤلاء سنةً قولية تقريرية عملية، وفريضة قرآنية، يزيدها قوة ورسوخًا ومصداقية كونها أول تشريع قرآني اقتصادي مدني رسمي، يُناط تنفيذه بالسلطة المركزية للدولة الممثَّلة حينئذٍ في الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيمن تختاره الأمة بعده لقيادتها في كل عصر، وأول إجراء اجتماعي عملي صِيغ وجوبه واضحًا ومؤكدًا ومعلقًا بالعلم اليقيني للمكلفين، شهادة وإشهادًا وامتثالًا بقوله تعالى في أول الآية: ﴿ وَاعْلَمُوا ﴾ [الأنفال: 41]، من "علم" الأمر إذا عرفه، وأيقن به وصدَّقه، وأدركه إدراكًا عقليًّا لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أو معاند، وتبقى أربعة أخماس الغنيمة أمرها للمقاتلين يقتسمونها فيما بينهم، وذلك هو الحكم أيضًا في مداخيل دولة الإسلام مطلقًا، سواء كانت غنائم حرب كما في غزوة بدر، أو ما أخذ بغير قتال؛ وهو الفيء؛ في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾ [الحشر: 6]، وقوله عز وجل: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7]، أو ما استُخرِج من باطن الأرض ركازًا[5] كان أو كنوزًا أو دفائنَ، معادن صلبةً كالذهب والفضة، وسائلةً كالبترول والغاز، يحتفظ بيت مال المسلمين بأربعة أخماسه، ويُوزَّع الخمس بين محاويج الأمة، على خلاف بين فقهاء المذاهب في ذلك، لا يقتضي التفسير الإطالة به، ويُرجَع فيه إلى كتب الفروع.

ثم أكَّد تعالى هذا الحكم، فرَبَطَ ضمان الوفاء به، ودقة الامتثال له حاضرًا ومستقبلًا بإيمان المخاطبين من الأنصار والمهاجرين المشاركين في معركة بدر، ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة؛ فقال عز وجل: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ﴾ [الأنفال: 41]؛ أي: إن كنتم صادقين في إيمانكم بالله، وقد أعلنتموه، وبايعتم عليه رسوله صلى الله عليه وسلم[6]، ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [الأنفال: 41]، شاهدين مصدقين بما أنزلناه من القرآن على عبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ﴿ يَوْمَ الْفُرْقَانِ ﴾ [الأنفال: 41]، يوم تميز الحق عن الباطل، بنصركم وإذلال عدوكم بين أيديكم، واتضاح معالم أهل الإيمان والإحسان، ونقائص أهل الكفر والعصيان، ﴿ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ [الأنفال: 41]، يوم اشتبك جيش المسلمين المنتصر على قلة عدده، مع جيش المشركين المعتز بكثرته وقوة عتاده، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: 41]، بقدرته ينصر المؤمن الضعيف على ضعفه، ويهزم القوي على قوته، فعَّال لِما يريد سبحانه، تدبيره حكيم يراه المستبصرون، ويعمى عنه المستكبرون.

ثم استثارة لذاكرتهم وشحذًا لتجربتهم، وإعدادًا لمجابهة ما يعده المشركون لهم؛ خاطبهم الحق تعالى بقوله: ﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا ﴾ [الأنفال: 42]، والعدوة الدنيا أو القربى هي شفير وادي بدر الأقرب من جهة المدينة، قرأها ابن كثير وأبو عمرو بكسر العين، وقرأها الباقون بضمها؛ أي: فاذكروا وتدبروا ما عشتموه من أحداث في يوم بدر، وكيف نصركم الله على عدوكم، وجمعكم قليلٌ، وعدتكم أقلُّ، وخبرتكم بالقتال - حيلةً ودهاء - ضعيفة، وأنتم مترددون إقبالًا وإدبارًا، وقد بلغ جيشكم جانب وادي بدر مما يلي المدينة، والتقيتم بجيش المشركين كأنكم معهم على موعد، ﴿ وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى ﴾ [الأنفال: 42]، والعدوة القصوى هي شفير الوادي الأبعد من المدينة؛ أي: وجيش المشركين في الضفة المقابلة لكم مما يلي مكة، ﴿ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 42]، وحرف الواو في الآية للحال، و"الركب" هو العير مبتدأ، وظرف المكان بعده "أسفل" واقع موقع الخبر؛ أي: أسفل من وادي بدر الذي يعسكر فيه المسلمون، وقد فرَّ إليه أبو سفيان بتجارة قريش، وأبعد فبلغ ساحل البحر الأحمر الأسفل من وادي بدر، ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾ [الأنفال: 42]، بل لو كنتم قد اتفقتم من قبل على اللقاء في هذا الموقع، وفي هذا الوقت، لَما التقيتم؛ نظرًا لشساعة الصحراء، واتساع متاهاتها، واختلاف تضاريسها، وتقلباتها الجوية، ﴿ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 42]، ولكنكم التقيتم بتقدير قدَّره الله؛ لينجز ما حكم به وأراده من نصر لكم، وهزيمة لأعدائكم، ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42]؛ أي: ليقتل مَن قتل مِنَ المشركين، وهو على بينة من ضلاله ومصيره، ﴿ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42]، والفعل الماضي "حَيَّ" بياء مدغمة من "حيي يحيى حياةً"، قرأها ابن كثير برواية القواس، وابن عامر وحفص، عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام ﴿ حَيَّ ﴾ [الأنفال: 42]، وقرأها نافع وأبو بكر عن عاصم، والبزي عن ابن كثير، ونصير عن الكسائي: "حيي" بإظهار الياءين؛ أي: ليرى من بقِيَ حيًّا حكمة الله في نصرة المؤمنين على ضعفهم، وانكسار المشركين على قوتهم، فيزداد المؤمنون إيمانًا وثباتًا وثقة بوعد ربهم، ويزداد المشركون انتكاسًا وحزنًا، وغمًّا ويأسًا،﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، يسمع تضرعكم ودعاءكم، فيستجيب لكم، ويعلم ضعفكم، فيقويكم وينصركم.

ثم بيَّن تعالى لهم حكمته وحسن تدبيره في استدراجهم إلى النصر؛ فقال عز وجل: ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ﴾ [الأنفال: 43]؛ أي: واذكر حين رأيت في منامك جيش المشركين قليلَ العدد، فأوَّلتَها ضعفهم وانتصارك عليهم، وأخبرت المسلمين بذلك، فارتفعت معنوياتهم، وانتفت مخاوفهم، وغاب ترددهم، واعتقدوا أن عدد المشركين حقًّا قليل؛ حتى قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "لقد قلت لجار لي: أظنهم سبعين، فقال: لا بل مائة"، ﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [الأنفال: 43]، ولو رأيت في منامك أن عددهم كثير، وأخبرت جنودك، لوهَّنهم الوهن، وضعُفوا وترددوا، وتنازعوا وانهزموا، ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ﴾ [الأنفال: 43]، سلمكم من الوهن والاختلاف، والتنازع والفشل، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الأنفال: 43]، يعلم ما في نفوسكم من القدرة على التحمل، وما في قلوبكم من المناعة ضد نوازع الاختلاف والجزع والقابلية للفتن، فحماكم ونجاكم من شر ذلك كله، ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ﴾ [الأنفال: 44]، وكذلك حين قللهم الله في أعينكم عند اللقاء، والاشتباك في الحرب؛ لتزدادوا حماسة وجراءة عليهم، ﴿ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾ [الأنفال: 44]، وكذلك حين أظهركم في أعينهم أول ما رأوكم قليلًا عددكم، فاستهانوا بقوتكم، واغتروا بقوتهم؛ حتى قال أبو جهل: "إنما أصحاب محمد أكلة جزور"، فخفَّت شرتهم، واستهانوا بقوتكم، فلما التحم الجيشان، وتدخل الملائكة، واستحرَّ القتل فيهم، غشِيَهم الهلع والرعب، وأُلقِيَ في رُوعِهم أن جيش المسلمين ضعف عدد جيشهم فانهاروا، وهو ما اعترف به أبو سفيان عند عودته إلى مكة منهزمًا من بدر، فسأله أبو لهب: "يا بن أخي، كيف كان أمر الناس؟ فقال: لا شيء، والله ما هو إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله ما لُمْتُ الناس، قال: ولِمَ؟ فقال: رأيت رجالًا بِيضًا على خيل بُلُق، لا والله ما تليق[7] شيئًا، ولا يقوم لها شيء"، وما نزل به الوحي الكريم في قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]، قال عبدالله بن مسعود: ((لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: نراهم سبعين، فقال: أراهم مائة، فأسرنا رجلًا منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا، قال مقاتل: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل لقاء العدو، فأخبر أصحابه بما رأى، فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، فلما التقَوا ببدر قلَّل الله المشركين في أعين المؤمنين، وأصدق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم)).

ثم عقب الحق تعالى تذكيرًا بحكمته وعلمه وقدرته؛ فقال: ﴿ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 44]؛ أي: إن ما وقع في بدر من أحداث ووقائعَ، وآيات وانتصارات، كان إظهارًا من الله تعالى لأمر قضاه غيبًا بنصر المؤمنين؛ كسرًا لشوكة المشركين؛ ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44]، والحال أن أمور جميع الخلائق بيد الله يعود تدبيرها إليه، يصرفها كيف يشاء؛ خلقًا وإنشاء، وإفناء وتدبيرًا، وحركة وسكونًا، وعطاء ومنعًا.

وبعد أن ذكَّر الحق تعالى المسلمين بقسط من تدبيره المشهود لمعركة بدر؛ من إخراجهم من المدينة، والتقائهم بجيش المشركين على غير ميعاد، وجانب من تدبيره الغيبي بتقليله المسلمين في الرؤية عند العدوة الدنيا، ثم تكثيرهم عند الملحمة؛ توهينًا للمشركين، وتثبيطًا لعزائمهم، وبتقليل المشركين في عين المسلمين؛ شحذًا لحماسهم، وتشجيعًا لهم على القتال، أخذ الوحي الكريم يعدهم لمعارك المستقبل، وقد كاد أن يحدد موقعة أُحُد، وما يجب عليهم فعله، وينبغي لهم تلافيه؛ إعدادًا واستعدادًا لها ولغيرها؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ﴾ [الأنفال: 45]، والفئة لغة: من فاء يفيء فيئًا، والفاء والهمزة بينهما حرف علة تدل على الرجوع إلى شيء، أو تحيز له، ومنه رجوع الظل وتحيزه أو تحوزه من جانب إلى جانب، وكل رجوع أو تحيز فَيْءٌ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9]، ومنه قيل "فئة" للجماعة أو للطائفة تتحيز لبعضها، أو لشبيهها، أو تشترك معها في صفات خاصة، أو هدف واحد، أو نهج واحد؛ كما في قوله تعالى: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، وقوله عز وجل: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ [آل عمران: 13]، وبه سُمِّيَ ما يُؤخَذ من العدو المحارب بدون قتال فيئًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [الحشر: 7]، ومنه أُطلق لفظ "الفئة" على الفرقة العسكرية المقاتلة؛ في قوله تعالى في الأنفال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ﴾ [الأنفال: 45]؛ أي: جماعة أو فرقة من عدوكم مقاتلة تزحف نحوكم، ﴿ فَاثْبُتُوا ﴾ [الأنفال: 45]، والثبات المطلوب عند لقاء العدو أوله إيماني على التوحيد، قوامه الثقة بنصر الله، وثانيه وجداني جوهره الوفاء والمحبة لله ورسوله والمؤمنين، وثالثه نفسي دعامته العزيمة الصلبة، وقوة التصميم على تحقيق الهدف، فلا يطير القلب خوفًا أو جزعًا من مواجهة الموت، ولا تضعف الإرادة أو تتردد أو تتهيب عند الإقبال والنزال، ورابعه عقلي لا تختل معه التصرفات القتالية دقة ومهارة ومضاء في استعمال السلاح واستثماره، وقد ظهرت في جهاد الرعيل الأول من المسلمين نماذجُ فذة من الثبات الذي لا يتزعزع؛ غرة جبينهم الإمام علي كرم الله وجهه إذ قيل له: "إن درعك له صدار وليس له ظهر"؛ أي: إن درعك يحمي صدرك ولا يحمي ظهرك، فقال: "لا كنتُ إن مكَّنتُ خَصمي من ظهري".

﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، واستعينوا لتحقيق الثبات في أنفسكم ومواقفكم، والنصر على عدوكم بالإكثار من ذكر الله، واستحضار معيته لسانًا وجنانًا[8] في مفاصل القتال، وقبل المعركة وأثناءها وبعدها؛ كي تفلحوا وتحققوا ما نهضتم له من طلب النصر، وإقامة الشهادة، وتثبيت أمر الإسلام على الأرض.

ثم أمرهم الحق تعالى بأهم ما ينبغي أن يتصف به الجندي الصادق؛ وهو الطاعة؛ فقال عز وجل: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [الأنفال: 46]، أطيعوا الله بإطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغكموه من أحكام الشريعة؛ قرآنًا وسُنَّة، وتوجيهًا ونصحًا، وما يأمركم به في ميدان الجهاد والبذل والفداء؛ إذ طاعة الجندي لقيادته العقدية والسياسية والعسكرية أوجب الواجبات، وعصيانها أو مخالفتها مقدمة للوهن، ودليل على الجبن وهشاشة الصف، وسبب للهزيمة؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول عن أمراء البعثات العسكرية والدعوية كلما ابتعثهم: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني))، وكان القرآن الكريم يشجب في سياقات كثيرة صريح العصيان، كما يحذر من نفاق الطاعة بإظهار الموافقة وإسرار المخالفة؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾ [محمد: 20، 21]، وقال: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81]، ولعل أشد ما أصاب المسلمين وأوله ما كان يوم أحد؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرماة: ((انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبتوا في مكانكم، لا نُؤتينَّ من قِبَلِكم))، وأكد الأمر ثانية بقوله: ((احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقتَل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا))، فلم يمتثلوا لأمره صلى الله عليه وسلم، وكانت الهزيمة التي مُنُوا بها؛ لقلة صبرهم على لزوم الطاعة أمام إغراء الغنائم، والعدو منهزم عنها، فلما رأى العدو اختلال صفهم، وانشغالهم عن حماية ظهر زملائهم في المعركة بالغنائم، جمع أمره والتف حولهم؛ فكانت الهزيمة.

ثم حذرهم سبحانه من أخطر آفة تصيب الصف المسلم في حالتي السِّلم والحرب بعد العصيان؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا ﴾ [الأنفال: 46]، باختلاف الآراء والأهواء، وتضارب الأهداف، أو باختلاق أسباب النزاع والخصومة، أو إذكائها، أو توسيع دائرتها؛ إذ التنازع والجَلَبَة والخلاف داخل الجيش الواحد دليل على تنافر الجنود، ورخاوة صفهم، وعدم وضوح هدفهم، وضعف ولائهم لمن يقاتلون تحت رايته؛ ﴿ فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]، فتكون عاقبة أمركم فشل جهودكم في كل ما تصديتم له؛ جهادًا حربيًّا، أو علميًّا، أو اقتصاديًّا، أو بناء لمجد الأمة ودولتها، قيل لأكثم بن صيفي: "صِف لنا العمل في الحرب"، فقال: "أقِلُّوا الخلاف على أمرائكم، فلا جماعة لمن اختُلف عليه، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، فتثبَّتوا؛ فإن أحزم الفريقين الركين"[9]، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل، وقد سمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: "المنازعة في الحرب خور، والصياح فيها فشل، وما برأيي خرجت مع هؤلاء".

لذلك ولمثل هذه المواقف وغيرها؛ عقَّب الحق تعالى - وهو أعلم بما يكون ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا - كأنه يحذر مما سيرتكب يوم أُحُد قبل وقوعه؛ بقوله عز وجل: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]؛ لأن الصبر صبران كما قال الإمام علي كرم الله وجهه: "صبر على ما تكره، وصبر على ما تحب"، صبر على ألمِ ما يضرك؛ حتى يجعل الله لك منه نجاة وسلامة، وصبر على إغراء الفاحشة؛ مالًا أو شهوة - والعصيان من أبغض الفاحشة – فلا تقترفها لتفوز؛ قال عز وجل: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].

ثم حذرهم تعالى من التأثر بأخلاق أعدائهم الذين خرجوا للعدوان عليهم في بدر، منتفشين كبرًا وتعاليًا؛ فقال عز وجل: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾ [الأنفال: 47]؛ وهم مشركو مكة إذ خرجوا منها إلى بدر، ﴿ بَطَرًا ﴾ [الأنفال: 47]؛ استعلاء وتفاخرًا، واعتزازًا وفرحًا بما لديهم من القوة والمال، ﴿ وَرِئَاءَ النَّاسِ ﴾ [الأنفال: 47]، ومراءاة للعرب بما لديهم من المنزلة والجاه، حتى إنهم لما بلغوا الجحفة في خروجهم لحماية عير تجارتهم، وأتاهم رسول أبي سفيان، يقول لهم: ارجعوا فقد سلِمت عيركم، قال أبو جهل: "والله لا نرجع حتى نرِد بدرًا، فنقيم بها ثلاثًا فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القِيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا".

﴿ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [الأنفال: 47]، ويصرفون الناس عن الإيمان بالله ورسوله، ويبغون لهم الشرك والكفر والضلال، مُغْفِلين أن الله تعالى محيطٌ بهم، يعلم سرهم ونجواهم، وخفيَّ أعمالهم؛ مكرًا وكيدًا وصرفًا عن الإيمان.

﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [الأنفال: 48]، واذكروا حين زيَّن لهم الشيطان سوء أعمالهم، فرأوها حسنة ومدعاة للفخر، وازدادوا بطرًا وبعدًا عن الهداية؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8]، وإذ ألقى الشيطان في أمنياتهم أنهم الغالبون من دون الناس جميعًا، ﴿ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [الأنفال: 48]، فازدادوا غرورًا وضلالة وبعدًا عن الحق، ﴿ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 48]، أُجيركم وأُدافع عنكم، وأحميكم من أعدائكم، ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ ﴾ [الأنفال: 48]، فلما التحم الجيشان؛ جيش المسلمين، وجيش المشركين في المعركة، ورأى إبليس نزول الملائكة، وبوادر نصر المسلمين، ﴿ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [الأنفال: 48]، تولى الشيطان مدبرًا مذعورًا، فارًّا وخائفًا من عاقبة أمره في حال هزيمة المشركين، وهو في صفهم، ﴿ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 48]، قال للمشركين وهو يفر مرعوبًا متبرئًا منهم: ﴿ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ﴾ [الأنفال: 48]، أرى الملائكة من حيث لا ترونهم، ﴿ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48]، إني أخشى أن يعذبني الله بهم عذابًا شديدًا، إذا استفردوا بي عقب انهزامكم.

ثم ذكَّرهم الحق سبحانه للعظة والاعتبار والحذر مما أخذ ينشأ حولهم من النفاق في المدينة؛ فقال عز وجل: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49]، وهم القلة التي أسلمت على رِيبة وتردد، أو طمع ودخيلة شك وضعف، أو استبد بهم الجبن وعصفت بهم الوساوس والظنون، فلم يصف إيمانهم، وزلزلت الشبهات تصورهم الإيماني، فكشفت المعركة دخيلتهم، وعللوا إقدام الصادقين واستبسالهم بما اغتروا به من وعود النصر والتمكين في الدنيا، ونعيم الجنة في الآخرة.

ولئن رُويَ عن مجاهد وابن جريج وابن إسحاق ومعمر أن المنافقين الذين أشارت لهم الآية الكريمة كانوا حينئذٍ فئة من قريش؛ منهم قيس بن الوليد بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن عبدالمطلب، والعاص بن منبه بن الحجاج، خرجوا في جيش قريش من مكة، فلما رأوا استبسال المسلمين على قلَّتِهم، قالوا: "غر هؤلاء دينهم"، فإن ابن عباس رضي الله عنه ذهب إلى أنهم كانوا في جيش المسلمين بقوله: "هم يومئذٍ في المسلمين"، فإن صح ما قاله ابن عباس - وإن لم تبين لنا الآية أسماءهم - كانوا هم البذرة الخبيثة الأولى لنشأة النفاق في المدينة، وحذر من شرها الحق تعالى بقوله: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 101، 102]، وهم الطابور الذي نما وترعرع حتى ذرَّ قرنه، وبلغ عدده ثلث جيش المسلمين، وتولى يوم أُحُد؛ ونزل بذكرهم قوله تعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 167، 168].

ولذلك عقَّب الوحي الكريم على تعجب المنافقين من استبسال الصادقين بتوضيح الجانب الغيبي للنصر، والخلفية العقدية والنفسية للإقدام والشجاعة؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 49]؛ أي: ومن يثق بالله ويتوكل عليه في جميع أمره، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ [الأنفال: 49]، قاهر لا يُغالَب، قوي لا يعجزه شيء، جبار ذلت له الخلائق، وخشعت له السماوات والأرض، منه تمام النصر لأوليائه، والهزيمة لأعدائه، لا يذِل من استجار به، ولا يرضى لعباده المعتزين به والمتوكلين عليه، إلا النصر والتمكين، أو الشهادة والجنة، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49] في أفعاله وتصريفه لمصائر عباده وجميع خلقه؛ إنشاء وتسخيرًا ومآلًا، بحكمته يقرر النصر لمن توكل عليه حالًا ومكانًا وميقاتًا، حكمته خلف كل تدبير أو تقرير أو تغيير، وجنوده الصادقون إذا عزموا أجرى على يدهم بحكمته ما تعجز العقول عن فهمه، والإرادات عن إنجازه.

وبعد أن نقل لنا الوحي الكريم حال المؤمنين وهم يصولون ويجولون في ميادين الجهاد، وحال المنافقين وقد غابت عنهم خلفية الإيمان الذي يملأ القلوب ثقةً بالنصر، والتوكل الذي يكسب الشجاعة على مقارعة الرجال، وعَمُوا عن آثار القدرة الإلهية عزة وحكمة، يحيلنا عز وجل على مشهد آخر شديد القتامة والرعب من حال المشركين في أشد لحظات موتهم، مغضوبًا عليهم يائسين من رحمة الله؛ بقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنفال: 50]؛ أي: ولو ترى يا محمد عاقبة أمر هؤلاء المشركين وأولئك المنافقين عند موتهم، لرأيت مشهدًا رهيبًا مفزعًا حين تنتزع الملائكة أرواحهم من أبدانهم، ﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ﴾ [الأنفال: 50]، والملائكة يضربون وجوههم، وما أقبل من أبدانهم ضربَ تعذيب وإهانة؛ لأن أكرم وأمنع ما في المرء وجهه وما أقبل من جسده، ﴿ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [الأنفال: 50]، ويضربون أدبارهم ضرب إهانة وإذلال؛ لأن أذل ما في المرء دبره، ﴿ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الأنفال: 50]، ويقولون لهم تشفيًا ونكاية وسخرية بهم إذ يلقونهم في جهنم: تذوقوا طعم الاحتراق؛ كما في قوله تعالى: ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [الدخان: 49].

ويختم الحق تعالى هذا المشهد الرهيب بذكر دقة عدالته، ومنجز وعيده؛ فيقول: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [الأنفال: 51]، ذلك العذاب عند انتزاع أرواح الكفار من أجسادهم، والحريق في جهنم بعده جزاء عادل موافق لِما ارتكبوه في الدنيا من الآثام؛ قال عز وجل: ﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 21 - 26]، ولأن الله تعالى عادل لا يُظلَم لديه أحد من عباده، وقد حرم الظلم على نفسه؛ فقال فيما رواه البخاري ومسلم: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا)).

لقد كانت مسيرة مشركي قريش في عتوِّهم وعدوانيتهم وإصرارهم على الكفر، وحرصهم على استئصال دعوة الإسلام؛ نبيها وقرآنها والمؤمنين بها - نموذجًا بئيسًا لمصير كل متكبر جبار؛ ولذلك شبَّه مسيرتهم بما سار عليه فرعون وآله؛ فقال: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [الأنفال: 52]، والدأب لغة: العادة والملازمة، ومنه يُقال لليل والنهار: "الدائبان"، فإن واظب المرء على شيء قيل: دأب عليه، وقوله تعالى: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ [الأنفال: 52]؛أي: إن مشركي قريش دأبوا على الشرك والعدوان مثل الذي دأب عليه فرعون وآله، ﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 52]، ودأب عليه كذلك من كان قبلهم من الكفار ممن ذكرهم الحق تعالى في سياقات قرآنية كثيرة؛ كقوله عز وجل: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ [ص: 12 - 14]، فعاقبهم الله سابقين ولاحقين بما دأبوا على اقترافه، بعضهم أُخِذ بالطوفان، وبعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالمسخ، وبعضهم رُجموا بالحجارة، وأُخذ كفار مكة بالقتل والأسر، وذل الهزيمة في بدر، ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 52] استحقاقًا وعدلًا، ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ ﴾ [الأنفال: 52]، قادر قويٌّ لا يُغالَب، ليس كمثل قوته شيء، ﴿ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 52]، عقوبته لمن يستحقها شديدة لا تندفع؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8]، هذا مآل من يدأبون على الكفر والعصيان، من سبق منهم ومن لحق، عذاب باستلال أرواحهم عند الموت، وعند إلقائهم في جهنم، يقابله مآل أهل الإيمان والإحسان الذين تتوفاهم الملائكة طيبين؛ ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32].

[1] الشَّمْلة بفتح وسكون: كساء له خمل يتوشح فيلتفُّ بالجسم كله.
[2] عبدالمطلِب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي جد الرسول صلى الله عليه وسلم.
[3] المطلب بن عبدمناف بن قصي عم عبدالمطلب بن هاشم الذي أتى به من عند أخواله بني النجار من يثرب.
[4] حديث جبير بن مطعم: ((لما كان يوم خيبر قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، فأتيت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله، أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم؛ لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال: إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبَّك أصابعه))؛ [رواه أحمد والبخاري]، وعندما حاصرت قريش بني هاشم في الشعب، ومنعوا تزويجهم ومبايعتهم، دخل بنو المطلب مع بني هاشم في الشعب؛ غضبًا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وحماية له، دخل مسلمهم في الشعب طاعةً لله ولرسولِه، ودخله كافرهم حميةً للعشيرة، وأنفةً وطاعةً لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تدخل بنو نوفل ولا بنو عبدشمس بل حاربوهم ونابذوهم، وقلَّبوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.
[5] الركاز هو المال المدفون لا يُعرَف مالكه، أو المدفون في الجاهلية.
[6] بلغت بيعات المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم على الإيمان والنصرة ستًّا؛ هي: بيعتا العقبة الأولى والثانية في مشعر مِنًى، وبيعة الرضوان في الحديبية، وبيعتا فتح مكة؛ أولاهما للرجال، وثانيتهما للنساء، وبيعة خاصة بعالم الجن في مسجد الجن القريب من مقابر جنة المعلاة.
[7] ما تليق: ما تُبْقِي.
[8] الجَنان: القلب
[9] ركين: رزين شديد.








الألوكة

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك



منتديات الحقلة

منتديات الحقلة: منتديات عامة اسلامية ثقافية ادبية شعر خواطر اخبارية رياضية ترفيهية صحية اسرية كل مايتعلق بالمرأة والرجل والطفل وتهتم باخبار قرى الحقلة والقرى المجاوره لها





hgkwv ,hgi.dlm fdk hgu,hlg hg`hjdm ,hgu,hlg hgydfdm hgydfdm hgu,hlg hgkwv fdk ,hgu,hlg




hgkwv ,hgi.dlm fdk hgu,hlg hg`hjdm ,hgu,hlg hgydfdm hgydfdm hgu,hlg hgkwv fdk ,hgu,hlg hgkwv ,hgi.dlm fdk hgu,hlg hg`hjdm ,hgu,hlg hgydfdm hgydfdm hgu,hlg hgkwv fdk ,hgu,hlg



 

قديم 25-04-2023   #2
عضو اللجنة الادارية والفنية للمنتدى مستشـار مجلـس ادارة المنتـدى


ابو يحيى غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 621
 تاريخ التسجيل :  19 - 01 - 2012
 أخر زيارة : منذ أسبوع واحد (01:21 AM)
 المشاركات : 210,290 [ + ]
 التقييم :  1210
 مزاجي
لوني المفضل : Cadetblue
رد: النصر والهزيمة بين العوامل الذاتية والعوامل الغيبية



كتب الله لكم الآجر والثواب



 

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الذاتية, الغيبية, العوامل, النصر, بين, والعوامل, والهزيمة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عندما تشعر بالقهر والهزيمة قلب أم المنتدى الاسلامي العام 5 11-03-2016 04:04 PM
العنف المدرسي (المظاهر، العوامل، بعض وسائل العلاج) المها منتدى التعليم العام 10 25-02-2016 03:51 PM
عندما تشعر بالقهر والهزيمة ابو يحيى المنتدى الاسلامي العام 2 03-03-2015 12:41 AM
العوامل النفسية من أسباب العقم عند المرأة ابو يحيى منتدى الصحة 6 13-12-2013 02:07 PM
العوامل المُسببة لحرقة المعدة نورالدين منتدى الصحة 2 27-11-2013 02:05 PM

Facebook Comments by: ABDU_GO - شركة الإبداع الرقمية

الساعة الآن 09:22 AM

أقسام المنتدى

الاقسام العامة | المنتدى الاسلامي العام | المنتدى العام | منتدى الترحيب والتهاني | الاقسام الرياضية والترفيهية | العاب ومسابقات | الافلام ومقاطع الفيديو | منتدى الرياضة المتنوعة | الاقسام التقنية | الكمبيوتر وبرامجه | الجوالات والاتصالات | الفلاش والفوتوشوب والتصميم | منتدى التربية والتعليم | قسم خدمات الطالب | تعليم البنين والبنات | ملتقــــى الأعضـــــاء (خاص باعضاء المنتدى) | المرحله المتوسطه | منتدى الحقلة الخاص (حقلاويات) | منتدى الاخبار المحلية والعالمية | اخبار وشـؤون قرى الحقلة | اخبار منطقة جازان | الاقسام الأدبية والثقافية | الخواطر وعذب الكلام | منتدى الشعر | عالم القصة والروايات | اخبار الوظائف | منتديات الصحة والمجتمع | منتدى الصحة | منتدى الأسرة | منتدى السيارات | منتدى اللغة الانجليزية | منتدى الحوار والنقاشات | منتدى التراث والشعبيات والحكم والامثال | منتدى التعليم العام | منتدى السفر والسياحة | الثقافه العامه | منتدى تطوير الذات | كرسي الإعتراف | منتدى عالم المرأة | عالم الطفل | المطبخ الشامل | منتدى التصاميم والديكور المنزلي | المكتبة الثقافية العامة | شعراء وشاعرات المنتدى | مول الحقلة للمنتجات | الخيمة الرمضانية | المـرحلـة الابتدائيـة | استراحة وملتقى الاعضاء | المرحله الثانويه | الصور المتنوعة والغرائب والعجائب | المنتدى الاسلامي | منتدى القرآن الكريم والتفسير | سير نبي الرحمة واهم الشخصيات الإسلامية | قصص الرسل والانبياء | قسم الصوتيات والفلاشات الاسلاميه | اخبار مركز القفل | منتدى الابحاث والاستشارات التربوية والفكرية | افلام الانمي | صور ومقاطع فيديو حقلاويات | البلاك بيري / الآيفون / الجالكسي | بوح المشاعر وسطوة القلم(يمنع المنقول ) | مناسك الحج والعمرة | منتدى | ارشيف مسابقات المنتدى | منتدى الحديث والسنة النبوية الشريفة | المنتدى الاقتصادي | منتدى عالم الرجل | اعلانات الزواج ومناسبات منتديات الحقلة | تراث منطقـة جــــازان | كرة القدم السعوديه | منتدى الرياضة | كرة القدم العربيه والعالمية | ديـوان الشـاعـر عمـرين محمـد عريشي | ديـــوان الشــاعـر عـبدة حكمـي | يوميات اعضاء منتديات الحقلة | تصاميم الاعضاء | دروس الفوتوشوب | ارشيف الخيمة الرمضانية ومناسك الحج والعمرة الاعوام السابقة | منتدى الاخبار | نبض اقلام المنتدى | ديـــوان الشــاعـر علـي الـدحيمــي | الاستشارات الطبية | الترحيب بالاعضاء الجدد | قسم الاشغال الايدويه | قسم الاشغال اليدويه | مجلة الحقله الالكترونيه | حصريات مطبخ الحقله | ديوان الشاعر ابوطراد |



Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
TranZ By Almuhajir
Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

Ramdan √ BY: ! Omani ! © 2012
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
Forum Modifications Developed By Marco Mamdouh
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

جميع المواضيع والمُشاركات المطروحه في منتديات الحقلة تُعبّر عن ثقافة كاتبها ووجهة نظره , ولا تُمثل وجهة نظر الإدارة , حيث أن إدارة المنتدى لا تتحمل أدنى مسؤولية عن أي طرح يتم نشره في المنتدى

This Forum used Arshfny Mod by islam servant