(إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)
معنى وحكمة
في اللحظات العصيبة يتجلى الإيمان الحقيقي وتنكشف معادن المؤمنين الحقيقيين وتبدو جلية وواضحة للعيان حقيقة الإيمان وتجليات اليقين. هذه الآيات تكشف كم كان موسى عليه الصلاة والسلام مؤمنًا بربه ومتوكلًا عليه وواثقًا أنه سيهديه بالرغم من الظرف العصيب الذي كان يحيط به.
يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء: 61 – 66].
ولنتأمل فيما حدث حينها:
اجتمع الجيش من أطراف المدائن وازدحموا على باب فرعون وخرجوا خلف بني إسرائيل مسرعين ﴿
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ﴾ وقت طلوع الشمس من المشرق.
﴿
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ ﴾ أي تقاربا إلى أن رأى كل من الجمعين صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى بعد ما رأوا من خلفهم جيشًا لا يعد ولا يحصى وعن أمامهم البحر الذي لا يمكن العبور عنه ﴿
إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ ملحقون يلحقنا العدو الآن وبعد غرقنا في البحر.
قالَ موسى ردعا لهم وازالة لرعبهم (كَلَّا) أي ارتدعوا عن هذا ولا تخافوا عن إدراكهم (إِنَّ مَعِي
رَبِّي سَيَهْدِينِ) ويلهمني إلى طريق النجاة والخلاص إذ قد وعدني ربي اليوم بالخلاص والنجاة فان وعده سبحانه حق ولا يخلف فصبر الى ان قرب العدو ووصل موسى على شاطئ البحر [1].
فَأَوْحَى الله سبحانه وتعالى إِلى مُوسى ﴿
أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ﴾ فضرب على الفور فَانْفَلَقَ البحر وافترق فرقًا فرقًا وانقطع قطعًا قطعًا كثيرة فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ بعد انفلاقه وانقطاعه كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الشامخ المرتفع نحو السماء الثابت في مقره بلا حركة وجري وذهاب وانفرج بين الفلق فرجا وسيعة فسيحة فدخل على الفور موسى بإذن الله وقومه تبعا له في تلك الشعوب والفرج كل سبط بشعب
وَبعد ما دخلوا في شعاب البحر المنفلق (أَزْلَفْنا) وقربنا (ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي قربنا فرعون وقومه هناك يعنى قد وصلوا على شاطئ البحر متعاقبة فرأوهم في شعاب البحر المنفلق على العبور فاقتحموا على الفور أثرهم طامعين النجاة والعبور مثلهم.
وَقد أَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ حيث حفظنا البحر على انفلاقه وعدم جريه الى ان عبروا سالمين من تلك الفرج ﴿
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ أي فرعون وقومه جميعًا بعد ما دخلوا مغترين مغرورين في تلك الفرج بإطباق البحر واجرائه واعدام انفلاقه وافتراقه واتصاله على الوجه الذي قد كان عليه قبل الانفلاق حسب وضعه الأصلي[2].
لذلك فـ"إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والإغراق على الوجه المذكور لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرة الله ومتانة حكمته بالنسبة إلى ذوي الأبصار والنهى واولى العبر والاعتبار من الأبرار الأخيار المشمرين أذيال الهمم والاهتمام نحو التفكر والتدبر في آثار أوصاف الفاعل المختار وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر الناس المجبولين على فطرة الاستدلال والاعتبار مُؤْمِنِينَ بالله موقنين بتوحيده وبأسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة حتى يتأملوا في آثار صفاته ليتمكن لهم الاستدلال بها على ذاته وَبالجملة
إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على امره القادر المقتدر على اجراء أحكامه وإنفاذ قضائه الرَّحِيمُ المشفق لخلص عباده الموفقين من عنده للوصول الى مبدئهم ومعادهم". [3]
لم يقل موسى عليه السلام كلمته الخالدة ﴿
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ وهو يعيش حياة هانئة حينها، ولم يكن اليوم وقتها يومًا طبيعيًا كسائر الأيام، بل كان يومًا فاصلًا بين الإيمان بالله والعبودية الخالصة له وبين ادعاء فرعون الزائف بربوبيته. جيش كبير يتبع موسى عليه السلام وقومه الذين كان جيش فرعون من أمامهم والبحر من أمامهم.
في تلك اللحظات العصيبة تكشف إيمان موسى عليه السلام ويقينه بربه فقال قولته الخالدة (إِنَّ
مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). والدرس المستخلص من ذلك الموقف العصيب وايمان موسى عليه السلام الراسخ أن ايمان المؤمن الحقيقي يتكشف وقت الشدائد، وأن المحن هي الفاصل بين المؤمن الحقيقي وغيره.
[1] ينظر: نعمة الله بن محمود النخجواني، ويعرف بالشيخ علوان (المتوفى: 920هـ): "الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية الموضحة للكلم القرآنية والحكم الفرقانية"، دار ركابي للنشر - الغورية، مصر، الطبعة: الأولى، 1419 هـ - 1999 م، 2/ 43.
[2] (نعمة الله بن محمود النخجواني، ويعرف بالشيخ علوان (المتوفى: 920هـ): "الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية الموضحة للكلم القرآنية والحكم الفرقانية"، 2 / 43 – 44).
[3] نعمة الله بن محمود النخجواني، ويعرف بالشيخ علوان (المتوفى: 920هـ): "الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية الموضحة للكلم القرآنية والحكم الفرقانية"، 2 / 44.
الألوكة