الأثر الإجتماعي للصيام
ومن عطاءات الصيام الإجتماعية أنه يجمع المسلمين ويوحد شملهم ويلفهم جميعاً في ثوب الوحدة المنشودة التي أمر الله بها في كتابه الكريم حين قال: ﴿
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [ آل عمران جزء الآية 103]، ويظهر ذلك من خلال مظاهر الوحدة والتجمع على الصلوات والطاعات والقرآن والموائد ومجالس العلم، وملء القلب شعوراً بحاجة الفقير، فيسعى المسلم إلى بذل الصدقات وإطعام الجياع بعدما لقنه الصيام دروس الإحساس بمشاعر المحتاجين، وما أحكم قول أمير الشعراء أحمد شوقي نثراً في "سوق الذهب": " الصوم حرمانٌ مشروعٌ، وتأديبٌ بالجوعِ، وخشوعٌ لله وخضوعٌ، ولكلِّ فريضةٍ حكمةٌ، وهذا الحكم ظاهره العذابُ وباطنُهُ الرحمة، يستثيرُ الشفقةَ ويحضُّ على الصدقةِ، ويكْسَرُ الكبرَ، ويعَلِّمُ الصبر، ويَسُنُّ خِلال البر، حتى إذا جاع من ألِفَ الشِّبَعَ، وحُرِمَ المُتْرف أسباب المتع، عرف الحرمان كيف يقع، والجوعَ كيف ألَمُهُ إذا لَذَعَ "، فلا ريب أن الصيام يهدينا إلى اكتسابِ خُلُقِ الوحدةِ من خلال هديه الذي ينزع دائماً إلى رأب الصدع والالتقاء بعد الفراق.
ومن صام لله على الحقيقة نالته بركات المنح الإلهية في اكتسابِ رِقَّةِ القلبِ والحنو على الفقراء والمحتاجين ولا سبيل في ذلك أقوى من الإحساس بسعير الجوع، فقد كان نبي الله يوسف عليه السلام أميناً على خزائن مصر وكان لا يأكل في اليوم إلا مرةً واحدةً ولا يستغرق في أمر الشبع، فقيل له في ذلك: تجوع وأنت على خزائن مصر ؟ قال: نعم ؛ أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
وكان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قرين الجوع والصبر على مسغبته لأن ذلك يقوي القلب على الطاعة ويعين النفوس على اكتناز تقواها.
ومن فوائد الصيام ما يتعلق بالصحة العامة للصائمين حيث إنهم يصححون حالتهم الصحية بالصوم الذي يخلصهم من الشحوم الزائدة ويخفف حِدَّةِ الأمراض كضغط الدم ويقي من الجلطات ويفك عسر الهضم ويحرك الدورة الدموية وغيرها من الفوائد الصحية الكثيرة الكامنة في الصيام، ولهذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (( اغزوا تغنموا وصوموا تصحوا وسافروا تستغنوا)) (المنذري في الترغيب والترهيب 2 /106 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال: رواته ثقات، والهيثمي في مجمع الزوائد 3 /182 وقال: رجاله ثقات)، فسبحان العالم بما يفيد خلقه: ﴿
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك:14].
من فضائل الشهر الكريم
ولا شك أن شهر رمضان الكريم هو تاج الشهور وبركة الأيام، أنزل الله تعالى فيه كلاماً درج كتابه الكريم يحفُّ الشهر العظيم بأوسمة التميز والتفرد عن بقية الشهور في العام كله، ويكفينا قول ربنا سبحانه:﴿
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [ البقرة جزء الآية 185]، ففيه الهداية بالقرآن من شتى صور الضلال، وهداية النفس بسعادتها بصنوف العبادات، وهداية الفوز بالغفران من الذنوب، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين )) (صحيح مسلم 1079عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه )، وعلى ذات المعنى وزيادة خيرات ومكرمات يأتينا حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن مطلع الشهر المبارك: (( أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم )) (الألباني في صحيح النسائي 2105عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بسندٍ صحيحٍ)، وليقين المغفرة في رمضان فإن الأمين جبريل عليه السلام يدعو على الذي أهمل نفسه في رمضان بترك الهداية ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن، والحديث رواه الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين. قيل: يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين ؟ فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان، فلم يغفر له، فدخل النار ؛ فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات، فدخل النار ؛ فأبعده الله، قل: آمين فقلت: آمين، ومن ذكرت عنده، فلم يصل عليك فمات فدخل النار ؛ فأبعده الله، قل: آمين فقلت: آمين )) (الألباني في صحيح الترغيب 1679وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ).
وفي الحقيقة إن رمضان الكريم فرصةٌ عظيمةٌ للفرد والمجتمع في طلب صياغة إيمانيةٍ جديدةٍ لقمع الهوى واكتساب الهدى والتزود من الحسنات وتكفير السيئات وبناء جسور الحب والرحمة والثقة بين أفراد المجتمع لتلاقيهم الدائم على ساحات العبادة وإطعام الطعام والقيام والذكر ومدارسة العلم وتلاوة القرآن والتصافي بعد التجافي مع صلة الأرحام وطيب الكلام والمزاحمة على الفضائل، ولا شك أن هذا الموسم الحاشد لكل هذه الفضائل العامة والشخصية لا تجتمع بهذا الشكل إلا في رمضان، فأكرم به من مرسم إيمانيٍ صاف من كدر الشياطين ووسوسة المردة، وأنعم به من بابٍ يدخله المؤمنون ليزادوا إيماناً ويحققوا لله تعالى مراد الصيام برجاء التزود بالتقوى والفوز بالمغفرة.
اللهم تقبل من عبادك الصائمين الصيام وأعنهم على القيام واجعلهم من العتقاء من النار ومن المقبولين.
والحمد لله في بدءٍ وفي ختم.
الالوكة