بسم الله الرّحمن الرّحيم
"أنصِتْ يُحبُّك النَّاس"
بعض الناس لا يتكلمون كثيرًا و لا تكاد تسمع صوتهم في المجالس
و التجمعات،
بل لو راقبتهم لرأيتهم لا يتحرَّك منهم إلا الرأس و العينان ،
و قد يتحرك الفمّ أحيانًا
و لكن بالتبسُّم ...لا بالكلام !!!
و مع ذلك يحبُّهم الناس و يأنسون بمجالستهم .
كما أنّ من أبرز سمات العظماء وأصحاب النفوذ والتأثير في المجتمعات هي
الاستماع والإصغاء إلى كلام الآخرين . فليس كثرة الكلام دليلاً على قوة
الشخصية ولا قوة التأثير بل ربما ينتهي كثرة الكلام إلى ما
لا يحمد عقباه من النتائج. فإذا زاد الكلام عن حدّه ابتلي بالتكرار
وتوضيح الواضحات
التي هي من مستهجنات البلاغة ،وبالعكس من ذلك فقد أورثت التجارب وما
أثبته علماء النفس الاجتماعي في أنّ الاستماع الجيد من أهم الأدوات الرئيسة
للوصول إلى قلوب الآخرين والتفاهم المثمر معهم.
الاستماع إلى الناس فنٌّ و مهارة ، بعض الناس ينسى أن الله قد جعل للإنسان
لسانًا واحدًا وأذنين ... ليستمع أكثر مما يتكلم فعوِّدْ نفسك على الإنصات
لكلام الآخرين ،حتّى لو كان لك على الكلام ملاحظة فلا تتعجَّل .
في كتاب ستيفن كوفي "العادات السبع لأكثر الناس إنتاجية"،
تحدَّث الكاتب عن أبٍ يجد أن علاقته بابنه ليست على ما يرام .
فقال لستيفن : لا أستطيع أن أفهم ابني ، فهو لا يريد الاستماع إليَّ أبداً.
فردَّ ستيفن : دعني أرتب ما قلته للتو، أنت لا تفهم ابنك لأنه لا يريد
الاستماع إليك ؟
فردَّ عليه : "هذا صحيح"
ستيفن: دعني أجرب مرة أخرى أنت لا تفهم ابنك لأنه -هو- لا يريد
الاستماع إليك أنت؟
فرد عليه بصبر نافذ : هذا ما قلته
ستيفن : أعتقد أنك كي تفهم شخصاً آخر فأنت بحاجة لأن تستمع له
فقال الأب: أوه (تعبيراً عن صدمته) ثم جاءت
فترة صمت طويلة، وقال مرة أخرى: أوه!
إن هذا الأب نموذج صغير للكثير من الناس ، الذي يرددون في أنفسهم أو
أمامنا: إنني لا أفهمه، إنه لا يستمع لي! والمفروض أنك تستمع له
لا أن يستمع لك!
- في أوائل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان عدد المسلمين قليلا و كان
الكفار يكذبونه، ويشيعون أنه مجنون وساحر وفي يوم من الأيام قدم إلى مكة
رجل اسمه ضماد... و هو حكيم له علم بالطب و العلاج يعالج المجنون
والمسحور.
فلما خالط الناس سمع الكفار يقولون عن رسول الله صلى اله عليه وسلم :
جاء المجنون...
فقال ضماد : أين هذا الرجل ؟ لعلّه يشفى على يدي ؟
فدله الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما لقيه ضماد قال : يا محمد...أنى أرقى من هذه الرياح وإن الله يشفى على
يدي من يشاء...فهلمَّ أعالجك.
و جعل يتكلم عن علاجه و قدراته و النبي ينصت إليه و ذاك يتكلم
و النبي ينصت.
أتدرى إلى ماذا ينصت ؟ ينصت إلى كلام رجل كافر جاء ليعالجه
من مرض الجنون!!
حتى إذا انتهى ضماد من كلامه قال صلى الله عليه وسلم :
"إنَّ الحمد لله..نحمده و نستعينه.. من يهدِه الله فلا مُضلَّ له و من يضلل فلا
هادي له.. و أشهد أنّ لا اله إلا الله وحده لا شريك له."
فانتفض ضماد وقال : أعد على كلماتك هؤلاء،
فأعادها صلى الله عليه وسلم عليه.
فقال ضماد : والله قد سمعت قول الكهنة و قول السحرة و قول الشعراء فما
سمعت مثل هذه الكلمات فقد بلغن ناعوس البحر... فهلمَّ يدك أبايعك على
الإسلام ، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده و أخذ ضماد يردد :
أشهد أنّ لا اله إلا الله و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله...
فـ عَلِم صلى الله عليه وسلم أن له عند قومه شرف فقال له :
و على قومك ؟
فقال ضماد : و على قومي... ثم ذهب إلى قومه هاديًا داعيًا.
قال بعض الحكماء:
"إذا جالست الجهال فأنصت لهم ... وإذا جالست العلماء فأنصت لهم ..فإنَّ
في إنصاتك للجهال زيادة في الحلم ، وإنّ في إنصاتك للعلماء زيادة في العِلْم"
إذن لتكن مستمعا ماهرا ...
أنصت ...هزَّ رأسك متابعًا ...
تفاعلْ بتعابير وجهك .. وانظر إلى أثر ذلك فيمن يتكلَّم معك .. سواء كان
كبيرًا أو صغيرًا ..
براعتنا في الاستماع إلى الآخرين ... تجعلهم بارعين في محبتنا
و الاستئْناس بنا...