هِشْ هِشْ .. عِرْ عِرْ .. وااا ( عثمان ) : ـ تعالى عاونِّي نِرَجِّعْ امهوش لمزريبه كانت تقولها ( عائشة ) وهي تقترب من دارها عائدة من رعي أغنامها خارج القرية ، حيث تبكر بها مع أول إطلالة لكل صبح جميل .. بعد أن تتناول مع شريك حياتها أولى وجبات النهار .. وهي عبارة عن الحلوى المسمَّنة مع القهوة المرة .. تسوق أغنامها نحو تلك الأراضي غير المأهولة والمليئة بالحشائش الخضراء وبعض النباتات البرية التي تنبت بعد سقوط الأمطار المتكررة على المنطقة .. تتوسط أغنامها وتقف على عصاتها المتعرجة وتتركها تأكل من رزق الله وتحمد الله ـ تعالى ـ على هذه النعمة .. وتدعوه أن يبارك لها في هذه الثروة التي رزقها بها .. وأن يمد في عمرها ويمتعها بالصحة والعافية ؛ كي تبذل كل ما في وسعها لإسعاد زوجها وأبنائها . في أغلب الأحيان تعود من الرعي مبكرة ؛ لتشرع ـ فورا ـ في إعداد وجبة الفطور والتي ـ غالبا ـ ما تكون من خمير الذرة وإيدام الطماطم والبامية بجانب الحقنة ( اللبن ) .. وما أن تنتهي من الفطور حتى تستعد لتنظيف المنزل وترتيبه استعدادا لعودة أبنائها من مدارسهم . تقضي ( عائشة ) ما تبقى من وقت الصباح في تبادل الأحاديث مع زوجها ـ على تلك القعادة العتيقة ـ وتناول فناجين القهوة الحلوة وإحياء أسباب العواطف والحنان .. والتخطيط لمستقيل الأبناء : أحمد وحسين ومريم وعامر ـ دراسة وزواجا ـ .. ثم تغطي قدميه بالحناء في جو من المداعبة والأشواق . تذكر المهندس ( عامر ) تلك المواقف والأيام الجميلة وهو ينظر إلى الدكتور ( مراد ) مطرقا رأسه إلى مستوى الأرض .. متأملا تلك المسكينة التي قام بفحصها للتو مطلقا تنهيدة حزن وأسى وهويقول : ـ والدتك في حالة صعبة يا عامر ولا أريد أن أسبق الأحداث .. لكنها معرضة لجلطة في الدماغ .. ألا ترى هذا الاحمرار الشديد في عينها .. هو مؤشر على تفجر بعض الشعيرات الدموية في العينين نتيجة لضغط الدم الذي تجاوز حده .. ولا تنس أنها فوق الخمسين . ـ والعمل يا دكتور ؟ ـ كل شيء بيد الله تعالى .. ستدخل العناية المركزة الآن وستبقى تحت الملاحظة الطبية الفائقة . ـ الأمر لله من قبل ومن بعد . بعد أسبوعين ـ تقريبا ـ تحسنت حالة ( عائشة ) قليلا وتم نقلها إلى التنويم الطبيعي .. لكنها أصبحت فاقدة الحركة والبصر .. وبعد استقرار حالتها لم يكن أمام ابنها المهندس ( عامر ) إلا طلب خروجها من المستشفى .. وهناك في المنزل سخر كل إمكانياته لها . بكل طمأنينة وإيمان كامل بالقدر خيره وشره أصبحت ( عائشة ) تقضي ليلها ونهارها مستلقية على ذلك الفِراش المائي وابناها ( عامر ) و ( مريم ) يقومان برعايتها بكل تفان وهي مرتحلة بين الصلاة والدعاء والحزن والألم والسكون .. لا يقطع ذلك إلا عبرات تنهمر على وجنتيها كلما نادت : ـ واااا عثمان .. وااا حسين ... وااا أحمد . فأما حسين وأحمد فقد غيبتهما ظروف العمل خارج المنطقة .. وأما زوجها عثمان فقد غيبته ظروف أخرى .. وأما عامر وأخته مريم فهما بجوارها تعصف بهما رياح الحيرة .. فهما يفهمان ما تعانيه أمهما وتفكر فيه ولا يستطيعان أن يفعلا شيئا .. ويعلمان كم تنكر والدهما لهذه المخلصة .. فمنذ أن بدأت تتقدم في العمر قليلا بدأ هو في البحث عن فتاة تعيد له الخريف ربيعا . ! وكلما صاحت : ـ واااا عثمان .. فيَّانك يا روح روحي .. وااا حَرَّ قلبي عليك لا يملكان إلا مشاركتها بالدموع .. ولا يستطيعان أن يقولا لها : أن والدهما لم يعد يأتي منذ أن مرضت .. أو أن ابن الخامسة والستين غارق في أحضان ابنة العشرين .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك