عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغيَر من الله عز وجل، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين) رواه البخاري ومسلم.
شرح الحديث:
(لا أحد أغير من الله عز وجل) أفعل التفضيل من الغَيرة، وهي الأنفة والحمية في حق المخلوق، وفي حق الخالق تحريمه ومنعه أن يأتي المؤمن ما حرمه عليه، والمعنى أن الله تعالى شديد الغيرة على عباده، لا أحد أشد منه غيرة عليهم، وغيرة الله عز وجل على العباد معناها أنه لا يرضى أن يمسهم أحد بسوء، ولا أن يلحق بهم أي ضرر أو عدوان أو يصيب أحداً منهم بأذى في دينه أو نفسه أو عرضه أو عقله، فحرّم الزنا غيرة على أعراض الناس وأنسابهم، وحرّم السرقة والغصب والربا غيرة على أموال الناس أن يُعتدى عليها، وحرّم شرب الخمر غيرة على عقول الناس ومحافظة على سلامتها، وجميع ما حرمه الله من الفواحش إنما حرمه غيرة على حقوق عباده وحماية لها، (من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) أي أنه عز وجل إنما حرم الفواحش غيرة على عباده، وحفظاً لمصالحهم.
(ولا أحد أحب إليه المدح من الله) أي لا أحد أشد حباً للمدح والثناء الصادق الصحيح من الله تعالى، فإنه عزّ وجل يحبُّ الثناء والشكر من عباده بالطاعة والعبادة والذكر، ويكافؤهم عليه بزيادة النعمة، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7)، (من أجل ذلك مدح نفسه) أي ومن أجل ذلك أثنى على نفسه بنفسه ليعلّم عباده كيفية الثناء عليه، فقال عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 1).
(ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين)، أي لو لم يكن الإعذار وبلوغ الحجة وقيامها على العباد محبباً إلى الله عز وجل، لما أرسل الرسل وأنزل الكتب، فإن الله عز وجل بإنزاله الكتب وإرساله الرسل قد أقام الحجة على جميع العباد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15)، والله تعالى غني عن عذاب عباده، ولذلك لا يعذبهم إلا بعد قيام الحجة عليهم، وأخذ العذر عنهم ولهم، وهو كقوله تعالى: {لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى الله حُجّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} (النساء: 165).
ويحتمل أن يكون المراد اعتذار العباد إليه من تقصيرهم وتوبتهم من معاصيهم فيغفر الله لهم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشورى: 25).
ثبتت صفة " الغيْرة " لله تعالى في صحيح السنّة ، ومما جاء في ذلك :
1. عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:( إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) رواه البخاري ( 4925 ) ومسلم ( 2761 ) .
2. عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ : قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ( أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) .
رواه البخاري ( 6980 ) ومسلم ( 1499 ) وعنده زيادة بلفظ ( وَلاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ) .
3. عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيراً ) .
رواه البخاري ( 1044 ) ومسلم ( 901 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
" وغيْرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه ، وغيْرته أن يزني عبدُه أو تزني أمَتُه ... .
الغيْرة التي وصف الله بها نفسه : إمَّا خاصة وهو أن يأتي المؤمن ما حرَّم عليه ، وإما عامة وهي غيرته من الفواحش ما ظهر منها وما بطن" . انتهى من " الاستقامة " ( 2 / 9 – 11 ).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
" المحال عليه سبحانه وتعالى وصفه بالغيرة المشابهة لغيرة المخلوق ، وأما الغيرة اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى فلا يستحيل وصفه بها ، كما دل عليه هذا الحديث وما جاء في معناه ، فهو سبحانه يوصف بالغيْرة عند أهل السنَّة على وجه لا يماثل فيه المخلوقين ، ولا يعلم كنهها وكيفيتها إلا هو سبحانه ، كالقول في الاستواء والنزول والرضا والغضب وغير ذلك من صفاته سبحانه ، والله أعلم " . انتهى من تعليق الشيخ ابن باز على " فتح الباري " لابن حجر ( 2 / 531 ) .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك