سُورةُ الفاتحةِ خيرُ القرآن الكريم و أفضله و هي أعظمُ سُورِه بل ما نزل في التّوراة و لا في الإنجيل و لا في الزّبـور و لا في الفرقان مثلُها . و قد سمّيتْ بأسماءَ كثيرةٍ ، ونُعتت بأوصافٍ عديدةٍ ، و الشّيءُ إذا عظُم شأنُه كثُرت أسماؤه وتعدّدتْ أوصافُه ، ألم ترَ أنّ السّيفَ لمّا كان - عند العرب – ذا شأن عظيم و منفعة متأكّدة ، جمعوا له من الأسماء الكثير ؟!
و قد عدّ بعض أهل العلم للفاتحة أسماء فأوصلوها إلى نيّف وعشرين اسما ، وممّا ثبت في القرآن الكريم والسّنة الصّحيحة – مِن أسمائها - فاتحة الكتاب ، و السّبع المثاني ، و أمّ القرآن ، و أمّ الكتاب ، و الصّلاة ، و النّور ، و الرّقية ... .
عن الرَّبِيعِ بنِ صُبَيْحٍ عن الحسن قال : " أنزل الله عزّ و جلّ مائةً و أربعةَ كُتبٍ مِن السّماء أودع علومَها أربعةً منها التّوراة و الإنجيـل و الزّبور و الفرقان ، ثمّ أودع علومَ التّوراةِ و الإنجيلِ و الزّبورِ الفرقانَ ، ثمّ أودع علومَ القرآنِ المفصّـلَ ، ثمّ أودع علومَ المفصّلِ فاتحـةَ الكتابِ ، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميعِ كتبِ الله المنزّلة " و توجيه هذا أنّ العلومَ التي جمعها القرآنُ أربعةٌ ، قامت بها الأديان ، و حوتها الفاتحة - مع إيجاز في اللّفظ - و لهذا سمّيت " أمّ القرآن " . و هذه المقاصد الأربعة هي :
أحدها : العقائد ، و مدارها على معرفة الله تعالى و صفاته ، و إليه الإشارة بقوله : ﴿ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [ الفاتحة : 2 – 3 ] و معرفة النّبوات ، و إليه الإشارة بقوله : ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الفاتحة : 7 ] و معرفة المعاد ، و هو المومأ إليه بقوله : ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [ الفاتحة : 4 ] .
ثانيها : العبادات ، و إليه الإشارة بقوله : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] .
ثالثها : السّلوك و الأخلاق ، و أنفعها ما يوصل العبد إلى الاستقامة ، و إليه الإشارة بقوله : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [ الفاتحة : 6 ]
رابعها: القصص و أخبار السّابقين ، و إليه الإشارة بقوله : ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ [ الفاتحة: 7 ]
و سرّ الخلق و الأمر والكتب و الشّرائـع و الثّواب و العقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِيـنُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] و عليهما مدار العبوديّة و التّوحيد ، حتّى قيل إنّ الله جمع معاني المفصّل في الفاتحة ، ومعاني الفاتحة في هذه الآية الكريمة ، وهما الكلمتان المقسومتان بين الربّ و بين عبده نصفين : فنصفها له - تعالى - و هو : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] و نصفها لعبده و هو : ﴿ إِيَّـاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] . و قد قال بعض السّلف : " الفاتحة سرّ القرآن ، و سرّ الفاتحة : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] " .
و الدّين يرجع كلّه إلى هاتين الكلمتين : العبادة والاستعانة ، فالأولى : تبرّؤ من الشّرك ، و الثّانية : تبرّؤ من الحول و القوّة ، والتّفويض إلى الله ، وقد جاء هذا المعنى في غير ما آية من كتاب الله ، منها قوله تعالى : ﴿ وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : 123 ] وقولـه : ﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَـنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [ الملك : 29 ] وعبادة الله و الاستعانة به هما سبب السّعادة الأبديّة ، و النّجاة من كلّ الشّرور ، و كلّ واحد منهما – أي : العبادة و الاستعانة - دعاء ، و إذا كان الله تعالى قد فَرَضَ علينا أنْ نُنَاجِيَه و ندعوه بهاتين الكلمتين في الصّلاة ، وفي كلّ ركعة من ركعاتها ، فمعلومٌ أنّ ذلك يقتضي أنّه فَرْضٌ علينا أنْ نعبده و أن نستعينه . فالعبادة لله ، و الاستعانة به ، فما لم يكن بالله لا يكون ، فإنّه لا حول و لا قوّة إلاّ بالله ، و ما لم يكن لله فلا ينفع و لا يدوم .
و في هذه الآية تفصيل لما جاء في أوّل السّورة ، حيث ذكر تعالى " الحمد " بالألف و اللاّم التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد ، فدلّ على أنّ الحمد كلّه لله ، ثمّ حصره في قوله : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] فهو يدلّ على أنّه لا معبود إلاّ الله . فقولـه : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] : إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته ، مِن المحبّة و الخوف و الرّجاء و الأمر و النّهي . و ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِيـنُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] : إشارة إلى ما اقتضته الرّبوبيّة من التّوكّل و التّفويض و التّسليم .
و تقدّيم المعمول على العامل في قوله : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] : لئلاّ يتقدّم ذِكـر العبد و العبادة على المعبـود بحق - سبحانه و تعالى - . و في تقديم المعبود و المستعان على الفعلين : أدبهم مع الله ، بتقديم اسمه على فعلهم [ نعبد - نستعين ] و لمزيـد اهتمامهم و شدّة العناية به ، مع ما يفيده - زيادةً على مـا ذُكِر – مِن الإيذان بالاختصاص المسمّى بالحصر ، فهو في قوّة : ( لا نعبد إلاّ إيّاك ، و لا نستعين إلاّ بك ) .
و لهذا جاء في حديث ابن عبّاس قوله : " إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله ، وَ إِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ " إشعاراً بأنّ الله تعالى هو المسّخر لكلّ شيء ، فإذا سألَ العبدُ حاجةً - كبيرةً كانت أم صغيرةً – فعليه أن يسأل خالقها و مالكها ، الذي يملك أنْ يوصلها إليه .
و قد بيّن النّبيّ السّببَ الذي مِن أجله لا يُسأل إلاّ الله و لا يُستعان إلاّ به ، فقال – في آخر الحديث - : " وَ اعْلَـمْ أَنَّ الأُمَّـةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَ جَفَّتِ الصُّحُفُ " وذلك لأنّ الله تعالى هو الذي يكشف الضّر ، و يجلب النّفع ، و هـذا كلّه بيده ، قال سبحانه : ﴿ وَ إِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [ يونس : 107 ] و قـال : ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ﴾ [ فاطر : 2 ] .
* قوله : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] : العبادة تجمع أصلين : غاية الحبّ بغاية الذلّ و الخضوع . و التعبّد : التذلّل و الخضوع ، فمَـن أحببتَه ولم تكن خاضعا له لم تكن عابداً له ، و من خضعتَ له بلا محبّة لم تكن عابداً له ، حتّى تكون محبّاً خاضعاً .
و العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله و يرضاه مِن الأعمال و الأقوال الظّاهرة والباطنـة . و إنّما تكون العبادةُ عبادةً إذا كانت مأخوذةً من رسول الله مقصوداً بها وجه الله تعالى ، فبهذين الأمرين تكون العبادة .
و لا يكون العبـد محقّقا لـ : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] إلاّ بهذين الأصلين العظيمين ؛ و هما : إخلاص الدّين لله ، و موافقة أمـره الذي بعث به رسله ، و قد جمع - سبحانه - بين هذين الأَصْلَين في مواضع من كتابه ، كقوله : ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [ هود : 88 ] .
و أهلُ الإخلاص للمعبود و المتابعة هم أهل : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] حقيقةً ، فأعمالهم كلّها لله ، و أقوالهم لله ، و عطاؤهم لله ،
و مَنْعهم لله ، و حبّهم لله ، و بغضهم لله . فمعاملتهم - ظاهراً و باطناً - لوجه الله وحده ، لا يريدون بذلك - من النّاس - جزاءً و لا
شُكوراً ، و لا ابتغاءَ الجاه عندهم ، و لا طلب المحمدة و المنزلة في قلوبهم ، و لا هرباً مِن ذمّهـم ، بل قد عدّوا النّاس بمنزلة أصحـاب
القبور ، لا يملكون لهم ضرّاً و لا نفعاً ، و كذلكم أعمالهم و عبادتهم موافقة لأمر الله ، و لما يحبّه و يرضاه . و هذا هو العمـل الذي لا يقبل الله مِن عامل سواه ، و هذا هو المذكور في قوله تعالى : ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَ لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّـهِ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : 110 ] و في قوله : ﴿ وَ مَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [ النّساء : 125 ] .
و السّرّ في تقديم العبادة على الاستعانة - في قوله تعالى : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] – هو مِن باب تقديم الغايات على الوسائل ، إذْ العبادة غاية العباد التي خُلقوا لها ، و الاستعانة وسيلة إليها ، و العبادة من حقّ الله تعالى ، و الاستعانة من حقّ المستعيـن ، و العبادة هي المقصودة ، و الاستعانة وسيلة إليها . و لِيُعْلم– أيضاً- أنّ ذِكْر الوسيلة في طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة ، و لأنّ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ : قِسْمُ الرّبّ ، فكان مِن الشّطر الأوّل الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به . و ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ : قِسْمُ العبد ، فكان مع الشّطر الذي له ، و هو ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [ الفاتحة : 6 ] إلى آخر السّورة . و لأنّ العبادة المطلقة تتضمّن الاستعانة مِن غير عكس ، فكلّ عابدٍ لله - عبوديّةً تامّةً - مُسْتعينٌ به ، و لا ينعكس . و لأنّ الاستعانةَ جزءٌ مِن العبادةِ مِن غير عكس . و لأنّ الاستعانةَ طلبٌ منه ، و العبادة طلبٌ له . و لأنّ العبادةَ لا تكون إلاّ من مُخلصٍ ، والاستعانة تكون من مُخلصٍ و من غير مُخلصٍ . ولأنّ العبادةَ شُكرُ نعمةِ الله على العبدِ ، و الله يحبّ أن يُشْكر ، و الإعانةُ توفيقُ اللهِ للعبدِ ، فالتزامه للعبوديّة سببٌ لنيلِ الإعانةِ ، وكلّما كان العبـدُ أتمَّ عبوديّةً للهِ كانت الإعانةُ مِن الله له أعظم . فهذه الأسرار يتبيّن بها حِكمة تقديم : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ على : ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
و في هذه الآية إشارة إلى تحقيق كلمة التّوحيد ، لأنّ ( لا إله إلاّ الله ) مركّبة مِن ركنين ، وهما : النّفيُ بـ ( لا إلـه ) و الإثباتُ ( إلاّ الله ) فالنّفيُ : خلعُ جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع العبادات ، والإشارة إليـه بتقديم المعمول على العامل في قولـه : ﴿ إِيَّاكَ ﴾
و الإثباتُ : إفراد الله بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع ، و الإشارة إليه بقوله : ﴿ نَعْبُدُ ﴾ و قد ذكر الله تعالى هذا مفصّلا في آيات أخرى ، كقوله : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [ النّحل : 36 ] .
و العبودية منقسمة على القلب و اللّسان و الجوارح ، و على كلٍّ منها عبوديّة تخصّه ؛
فعبوديّة القلب ؛ الواجبُ عليه : الإخلاص ، و التوكّل ، و المحبّة ، و الصّبر ، و الإنابة ، و الخوف ، و الرّجاء ، و التّصديـق الجازم ، و النيّة في العبادات . و المحرّم عليه نوعان : كفر و معصية ؛ فمِن الكفر : الشكّ ، و النّفاق ، و الشّرك ، وتوابعها . و المعاصي : كبائر و صغائر ؛ فمِن الكبائر : الرّياء ، و العُجب ، و الكِبر ، و الفخر ، و الخيلاء ، و القنوط من رحمة الله ، و اليأس مِن رَوح الله ، و الأمن
مِن مكر الله ، و الفرح و السّرور بأذى المسلمين و الشّماتة بمصيبتهم ، و محبّة أنْ تشيع الفاحشة فيهم ، وحسدهم على ما آتاهـم الله من فضله ، و تمنّي زوال ذلك عنهم ، و توابع هذه الأمور التي هي أشدّ تحريما من الزّنا و شرب الخمر و غيرهما مِـن الكبائر الظّاهرة .
و لا صلاح للقلب و لا للجسد إلاّ باجتنابها و التّوبة منها ، و إلاّ فهو قلب فاسد ، وإذا فسد القلب فسد البدن . ومِن الصّغائر : شهوة المحرّمات و تمنّيها ، و تتفاوت درجات الشّهوة - في الكبر و الصّغر - بحسب تفاوت درجات المشتهي ، فشهوة الكفر و الشّرك كفر ،
و شهوة البدعة فسق ، و شهوة الكبائر معصية ، فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب ، و إن تركها عجزا عن بذلِه مقدورَه في تحصيلها استحقّ عقوبة الفاعل ، لتنزيله منزلته في أحكام الثّواب و العقاب ، و إنْ لم ينزّل منزلته في أحكام الشّرع ، و لهذا قال : " إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ " قَالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا القَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟! قَالَ : " إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ " . فنزّله منزلة القاتل ، لحرصه على الإثم دون الحكم .
وعبوديّة اللّسان ؛ واجبُه : النّطق بالشّهادتين ، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن ، وهو ما يتوقّف صحّة صلاته عليه ، وتلفّظه بالتشّهد و التّكبير و الأذكار الواجبة في الصّلاة . و مِن واجبه : ردّ السّلام ، و في ابتدائه قولان . ومِن واجبه : الأمر بالمعروف ، و النّهي عـن المنكر ، و تعليم الجاهل ، و إرشاد الضّال ، وأداء الشّهادة المتعيّنة ، و صدق الحديث . و مُستحبُّه : تلاوة القرآن ، و دوام ذكـر الله ، و المذاكرة في العلم النّافع ، و توابع ذلك . و مُحرّمُه : النّطق بكلّ ما يبغضه الله تعالى و رسوله كالنّطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله و الدّعاء إليها ، و تحسينها ، وتقويتها ، و كالقذف ، و سبّ المسلم ، و أذاه بكلّ قول ، و الكذب ، و شهـادة الزّور ، و القول على الله بلا علم ، و هو أشدُّها تحريماً . و مكروهه : التّكلّمُ بما تَرْكُه خيرٌ مِن الكلام به ، مع عدم العقوبة عليه .
و عبوديّة الجوارح ؛ و هي على الحواس الخمسة : السّمع ، و النّظر ، و الذّوق ، و الشمّ ، و اللّمس .
فالسّمع ؛ واجبُه : الإنصات و الاستماع لما أوجبه الله تعالى و رسوله مِن استماع الإسلام و الإيمان و فروضهما . وكذلك استماع القراءة في الصّلاة إذا جهر بها الإمام ، واستماع خُطبة الجمعة . و مُحرّمُه : استماع الكفر و البدع إلاّ حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة مِن ردّه أو الشّهادة على قائله و نحو ذلك ، و كذلك استماع المعازف و آلات الطّرب و اللّهـو ، وكذلك استماع أصـوات النّساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهنّ ، إذالم تدعُ إليه حاجة مِن شهادة أو معاملة أو استفتاء أو محاكمة أو نحوهـا . و مُستحبُّه : كاستماع المستحبّ مِن العلم ، و قراءة القرآن ، و ذِكر الله ، و استماع كلّ ما يحبّه الله تعالى و ليس بفرض .
و النّظر ؛ الواجبُ منه : النّظر في المصحف و كتب العلم عند تعيّن تعلّم الواجب منها ، و النّظر إذا تعيّن لتمييز الحلال مِن الحرام فـي الأعيان التي يأكلها و يُنفقها و يستمتع بها ، و الأمانات التي يؤدّيها إلى أربابها ليميّز بينها و نحو ذلك . و مُحرّمُه : النّظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا ، و بغيرها إلاّ لحاجة كنظر الخاطب و الشاهد و الحاكم و الطّبيب و ذي المحرم . ومستحبُّه : النّظر في كتب العلم والدّين التي يزداد بها الرّجل إيماناً و علماً ، و النّظر في آيات الله المشهودة ليستدلّ بها على توحيده و معرفته و حِكمته .
و الذّوق ؛ واجبُه : تناول الطّعام و الشّراب عند الاضطرار إليه و خوف الموت ، فإن تركه حتّى مات ، مات عاصيا . قال الإمام أحمد و طاووس : " مَن اضطرّ إلى أكل الميتة فلم يأكل حتّى مات ، دخل النّار " . ومحرّمُه : كذوق الخمر والسّموم القاتلة ، والذّوق الممنوع منه للصّوم الواجب . و مكروهُه : كذوق المُشْتَبَهَات ، و الأكل فوق الحاجة ، و كالأكل مِن أطعمة المرائين في الولائم و الدّعـوات . و مُستحبُّه : أكل ما يُعين على طاعة الله تعالى ممّا أذِن الله فيه ، و الأكل مع الضّيف ليطيب له الأكل فينال منه غرضه ، و الأكل مِـن طعام صاحب الدّعوة .
و الشمّ ؛ مُحرّمُه : كتعمّد شمّ الطّيب المسروق المغصوب ، أو تعمّد شمّ الطّيب مِن النّساء الأجنبيات للافتتان بما وراءه .
و اللّمس و البطش ؛ واجبُه : كالتكسّب المقدور للنّفقة على النّفس و الأهل و العيال . و مِن البطش الواجب : إعانة المضطرّ ، و رمي الجِمار ، و مباشرة الوضوء و الغسل و التيمّم ، و نحو ذلك . و مُحرّمُه : كلمس ما لا يحلّ من الأجنبيات . و مِن البطش المحرّم : كقتل النّفس التي حرّم الله ، و نهب المال المغصوب ، و ضرب مَن لا يحلّ ضربُه ، و نحو ذلك ، وكأنواع اللّعب المحرّم ، و نحو كتابـة البدع المخالفة للسّنة - تصنيفاً و نسخاً - إلاّ مقرونا بردّها و نقضها ، وككتابة الزّور و الظّلم و الحكم الجائـر و القذف ، و كتابة ما فيـه
مضرّة على المسلمين - في دينهم أو دنياهم - و لا سيما إنْ كسب عليه مالا ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [ البقرة : 79 ] و كذلك كتابة المفتي – علـى الفتوى- ما يخالف حُكم الله تعالى ورسوله إلاّ أنْ يكون مُجتهـدا مخطئا ، فالإثم موضوع عنه . و مُستحبُّه : لمس الرّكن بيده - في الطّواف– وككتابة ما فيه منفعة في الدّين ، أومصلحة لمسلم ، وكالإحسان بيده : بأن يُعين صانعاً ، أو يفرغ مِن دلوه في دلو المستسقي أو يحمل له على دابّته ، أو يمسكها حتّى يحمل عليها ، أو يعاونه فيما يحتاج إليه .
و المشي ؛ واجبُه : المشي إلى الجُمعات و الجَماعات ، و المشي حول الكعبة للطّواف الواجب ، و المشي بين الصّفـا والمروة ، و المشي إلى صِِلة الرّحم وبرّ الوالدين ، و المشي إلى مجالس العلم - طلبه و تعلّمه - و المشي إلى الحجّ إذا قربت المسافة و لم يكن عليه فيه ضرر . و مُحرّمُه : كالمشي إلى معصية الله ، و هو من رَجِل الشّيطان ، قال تعالى : ﴿ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ ﴾ [ الإسراء : 64 ] . قال مقاتل : " اسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِرُكْبَانِ جُنْدِكَ وَ مُشَاتِهِمْ " . فكلّ راكب و ماشٍ في معصية الله : فهو مِن جند إبليس .
و إنّ أفضل العبادة أنْ تعمل على مرضاة الله - في كلّ وقت - بما هو مُقتضى ذلك الوقت و وظيفته ؛ فأفضل العبادات في وقت الجهادِ الجهادُ ، و إنْ آل ذلك إلى ترك الأوراد مِن صلاة اللّيل ، و صيام النّهار ، كما في حالة الأمن .
و الأفضل في وقت حُضور الضيف - مثلا- : القيام بحقّه ، و الاشتغال به عن الورد المستحبّ ، و كذلك في أداء حقّ الزّوجة والأهل . و الأفضل في أوقات السّحر : الاشتغال بالصّلاة ، و تِلاوة القرآن ، و الدّعاء ، و الذّكر ، و الاستغفار .
و الأفضل في وقت استرشاد الطّلب و تعلّم الجاهل : الإقبال على تعليمه ، و الاشتغال به .
و الأفضل في أوقات الأذان : ترك ما هو فيه من ورده ، و الاشتغال بإجابة المؤذّن .
و الأفضل في أوقات الصّلوات الخمس : الجدّ و النّصح في إيقاعها على أكمل الوجوه ، و المبادرة إليها في أوّل الوقـت ، و الخروج إلى المسجد - و إن بَعُدَ - و ذلك أفضل .
و الأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال : الاشتغال بمساعدته ، و إغاثة لهفته ، و إيثار ذلك على الأوراد
و الأفضل في وقت الوقوف بعرفة : الاجتهاد في التضرّع ، و الدّعاء ، و الذّكر ، دون الصّوم المضعف عن ذلك .
و الأفضل في أيّام عشر ذي الحجّة : الإكثار من التعبّد ، لا سيما التّكبير ، والتّهليل ، والتّحميد ، فهو أفضل من الجهاد غير المتعيّن .
و الأفضل في العشر الأخير مِن رمضان : لزوم المسجد فيه ، و الخلوة ، و الاعتكاف دون التصدّي لمخالطة النّاس ، والاشتغال بهم حتّى إنّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم ، و إقرائهم القرآن - عند كثير من العلماء - .
و الأفضل في وقت مرض المسلم أو موته : عيادته ، و حضور جِنازته ، و تشييعه .
و الأفضل في وقت نُزول النّوازل وأذاة النّاس : أداء واجب الصّبر ، مع الخلطة بهم ، دون الهرب منهـم ، فإنّ المؤمن الذي يخالط النّاس ليصبر على أذاهم أفضل مِن الذي لا يخالطهم و لا يؤذونه .
فالأفضل في كلّ وقت و حال : إيثار مرضاة الله في ذلك الوقـت و الحال ، و الاشتغال بواجـب ذلك الوقت ووظيفتـه و مقتضاه ، و هؤلاء هم أهل التعبّد المطلق ، و هم المتحقّقون بـ : ﴿ إيّاك نعبد ﴾ حقّاً .
و تلزم ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] كلَّ عبدٍ إلى الموت ؛ قال الله تعالى : ﴿ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [ الحجر : 99 ] و قد حكى تعالى عن أهل النّار قولهم : ﴿ وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾ [ المدّثّر : 46 – 47 ] و اليقيـن - ها هنا - : هـو الموت - بإجماع أهل التّفسير- فلا ينفكّ العبد من العبوديّة ما دام في دار التّكليف ، بل عليه - في البرزخ- عبوديّة أخرى ، لمّا يسأله الملَكان : مَن ربّك ؟ و مـا دينك ؟ ومَن الرّجل الذي بُعِث فيكم ؟ و يلتمسان منه الجواب . و عليه عبوديّة أخرى يوم القيامة ، يوم يدعـو الله الخلق كلّهم إلى السّجود ، فيسجد المؤمنون ، و يبقى الكفّارُ والمنافقون لا يستطيعون السّجـود ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ ﴾ [ القلم : 42 – 43 ] ومَن زَعم أنّه يَصِلُ إلى مقامٍ يسقطُ عنه التعبّد فهو زنديقٌ ، كافرٌ بالله و رسوله و إنّما وصل إلى مقام الكفر بالله و الانسلاخ من دينه .
* قوله : ﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] : الاستعانة هي طلب العون و التّأييد و التّوفيق من الله تعالـى ، وهي الاعتماد على الله في جلب المنافع و دفع المضار ، مع الثّقة بالله في تحصيل ذلك ، و تكون بلسان المقال ، كأن تقول – مثلا – عند شروعك في عمل مـا : اللّهمّ أعنّي ، كما تكون بلسان الحال أيضا ، و هي أنْ تشعر بقلبك أنّك مُحتاج إلى إعانة الله لك لإنجاح عملك ، و أنّه إنْ وَكَّلَك إلى نفسك وَكَّلَك إلى عجز و ضعف . و الغالب أنّ مَن استعان بلسان المقال فقد استعان بلسان الحال .
و الاستعانة بالله واجبة على تحمّل الطّاعات و أدائها ، و ترك المنهيات و اجتنابها ،كما تجب الاستعانة بالله على الصّبر على المقدورات ، لأنّ العبد عاجزٌ عن الاستقلال بنفسه في جلب النّفع لها و دفع الضّر عنها ، ولا مُعين للإنسان على مصالح دينه و دنياه إلاّ الله سبحانه .
و كرّر الضّمير " إيّاك " للتّنصيص على أنّه - تعالى - هو المستعان به لا غيره . و إطلاق الاستعانة بقصد التعميـم ، أي : نستعينك في كلّ شيء - صغيره و كبيره ، عظيمه و جليله - فلا سبيل للعبد إلاّ بالمعونة ، و المعنى : ثبّتنا - يا ربّ- على العمل بطاعتك ، و إصابة الحقّ و الصّواب .
و ذكر الله تعالى ( الاستعانة ) بعد ( العبادة ) مع دخولها فيها ، و هذا له نظائر ، كما في قوله تعالى : ﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ ﴾ [ العنكبوت : 45 ] و الفحشاء مِن المنكر . وكذلك قوله : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَ الإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَ يَنْهَى عَـنِ الْفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ وَ البَغْيِ ﴾ [ النّحل : 90 ] و إيتاء ذي القربى هو مِن العدل و الإحسان ، كما أنّ الفحشاء و البغي مِن المنكر ، و أمثال ذلك في القرآن كثير . فلماذا - إذنْ - عطف الله على العبادة غيرها ؟ الجواب : مع كون الاستعانة بعض العبادة ، لأنّ جميع ما يحبّه الله تعالى داخل في اسم العبادة ، غير أنّ الآيةَ الكريمةَ ذكرت - مع العبادةِ - الاستعانةَ ، تخصيصا لها بالذّكر ، لكونها مطلوبة بالمعنى العـام و المعنى الخاص . وأيضا لاحتياج العبد في جميع عباداته للاستعانة بالله تعالى ، فإنّه إنْ لم يُعِنْه ربُّه لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامـر واجتناب النواهي . و لهذا قيل : إنّ " الواو " - في قوله : ﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ - : للحال ، فيكون المعنى : نعبدك مُستعينين بك .
و في الآية إشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يُتوكّل إلاّ على مَن يستحقّ العبادة ، لأنّ غيره ليس بيده الأمر . و مِن هنا تعلم أنّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة و القبور على قضاء حوائجهم ، وتيسير أمورهم ، و شفاء أمراضهم ، و نماء حرثهم و زرعهم ، و هلاك أعدائهم ، و غير ذلك من المصالح ، فهؤلاء عن صراط التّوحيد ناكبون ، و عن ذكر الله مُعرضون .
و قد أرشدتنا هذه الآية : ﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : 5 ] إلى أمرين عظيمين هما سبب السّعادة في الدّارين - الدّنيا و الآخرة - :
أحدهما : القيام بالأعمال النّافعة ، و الاجتهاد في إتقانها قدْر الاستطاعة ، لأنّ طلب المعونة لا يكون إلاّ على عمل بذل فيه المرء طاقته ، فيخشى أنْ لا ينجح فيه ، فيطلب المعونة على إتمامه و كماله ، و هذا بعد استفراغ القوّة ، و ترك النّتيجة لله تعالى .
ثانيهما : وُجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده ، و هذا لما أفاد الحصر ، و هذا مِن كمال التّوحيد الخالص ، فيكون المؤمـن مع النّاس حُرّاً خالصاً وسيّداً كريماً ، و مع الله عبداً خاضعاً ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [ الأحزاب : 71 ] .
و الاستعانة بالمخلوق تنقسم إلى قسمين : مشروعة و ممنوعة ؛ أمّا المشروع منها : فالاستعانـة به فيما يقدر عليه ، و أمّا الممنوعـة : فالاستعانة به على ما ليس في قدرته . و الاستعانة بالمخلوق إذْ تُشرع فعلى المستعين أنْ يجعل ذلك وسيلة و سبباً ، لا ركناً يعتمد عليه ، كما أنّ عليه إشعارَ مَن يستعينه بأنّه بمثابة معونة بعض أعضائه لبعض ، كما لو عجز عن حمل شيء بيد واحدة ، فإنّه يستعين على حمله بيده الأخرى ، قال تعالى : ﴿ وَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوَى ﴾ [ المائدة : 2 ] و قال : " كُلُّ سُلاَمَى مِن النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَـوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ ، يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ ، وَ يُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، وَ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وَ كُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ ، وَ يُمِيطُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ " .
و أمّا استعانة العبد بالعبد فيما لا يقدر عليه و لا يطيقه فمُحرّم شرعاً ، وقد يصل إلى حدّ الشّرك بالله ؛ لأنه بذلك يمنح للمخلوق مِـن القدرة و المكانة ما ليس من حقّه ، بل هو من حقّ الله سبحانه و تعالى وحده .
و لمّا كان كلُّ واحدٍ مِن البشر مُحتاجاً إلى إعانة الله و توفيقه ، بحيث لا يمكنه الاستغناء عنها طرْفة عين ، أمرنا بها النّبيّ ، و نهانا عن العجز و الكسل ، فقال : " المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ المُؤْمِـنِ الضَّعِيفِ وَ فِي كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُـكَ وَ اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَ لاَ تَعْجَزْ ، وَ إِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَ كَذَا ، وَ لَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " . قال النّووي : " و معناه : احرص على طاعة الله تعالى و الرّغبة فيما عنده ، و اطلب الإعانـة مِن الله تعالى على ذلك ، و لا تعجز و لا تكسل عن طلب الطّاعة ، و لا عن طلب الإعانة " .
و لذا كان النّبيّ يدعو ربّه تعالى و يسأله أن يُعينه و لا يُعين عليه أحداً يُلحق به ضررا ، فعن ابن عباس قـال : " كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُو : رَبِّ أَعِنِّي وَ لاَ تُعِنْ عَلَيَّ ... " الحديث
و أفضل أنواع الاستعانة ما كان على طاعة الله تعالى و البرّ والإحسان ، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِيَدِهِ وَ قَالَ : " يَا مُعَاذُ وَ اللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ ، وَ اللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ " فَقَالَ : " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَـى ذِكْرِكَ وَ شُكْرِكَ وَ حُسْنِ عِبَادَتِكَ " .
والعبوديّةُ محفوفةٌ بإعانتينِ : إعانةٍ قبلها على التزامها و القيام بها ، و إعانةٍٍ بعدها على عبوديّة أخرى ، وهكذا أبداً حتّى يقضي العبـد نحبه ( 29 ) . نسأل الله تعالى أنْ يوفّقنا لما يحبّه و يرضاه و أن يختم بالباقيات الصّالحات أعمالنا ، و يجعلنا ممّن حقّقـوا ﴿ إِيَّـاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِين ﴾ .
أصل هذا المقال مقال من الشيخ نجيب جلواح الجزائري إمام خطيب بالعاصمة. و ذلك بالتصرف
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك