قوله تعالى: ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [سبأ: 3]، فإن قبلها ذكر الله سبحانه سعة علمه[2]، وأن له ما في السموات وما في الأرض، فاقتضى السياق أن يذكر سعة علمه وتعلقه بمعلومات ملكه وهو السموات كلها والأرض[3].
قال ابن الحاجب[7]: في قوله تعالى: ﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ [سبأ: 12]: الفائدة في إعادة لفظ "شهر"؛ الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح، والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار[8].
وقال رحمه الله: الفرق بين "العمل" و"الفعل": أن العمل أخص من الفعل، كل عمل فعل، ولا ينعكس، ولهذا جعل النحاة الفعل في مقابلة الاسم؛ لأنه أعم، والعمل من الفعل ما كان مع امتداد لأنه فعل، وباب "فعل" لما تكرر، وقد اعتبره الله تعالى فقال: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [سبأ: 13] حيث كان فعلهم بزمان[10].
قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ﴾ [سبأ: 17] ثم قال عزَّ من قائل: ﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17]، أي: هل يجازى ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور إلا الكفور، فإن جعلنا الجزاء عامًا كان الثاني مفيدًا فائدةً زائدة[12].
قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ﴾ [سبأ: 23]، قال ابن سيده[13]: عداه بـ"عن"؛ لأنه في معنى كشف الفزع[14]،وقوله تعالى: ﴿ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ ﴾ [سبأ: 23] أي قالوا: قال الحق[15].
قال رحمه الله: إن قيل: هل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾ [16] وبين قوله في سورة سبأ: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ﴾ [17]؟
قيل: السياق في كل منهما مرشد إلى الفرق؛ فإن الآيات التي في يونس سيقت للاحتجاج عليهم بما أقروا به، من كونه تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم بأن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم؛ إذ فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره، فكيف تعبدون معه غيره، ولهذا قال بعده: ﴿ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 31] أي هم يقرون به ولا يجحدونه، والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى ينتهي إليهم، فأفردت لفظة "السماء" - هنا- لذلك.
وأما الآية التي في سبأ فإنه لم ينتظم لها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماء، ولهذا أمر رسوله بأن يجيب، وأن يذكر عنهم أنهم هم المجيبون، فقال ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ﴾ [سبأ: 24] ولم يقل ﴿ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 31] أي: الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات[18].
قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ: 25]، فحصل المقصود في قالب التلطف، وكان حق الحال من حيث الظاهر، لولاه أن يقال: "لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون"، وكذا مثله: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [19] حيث ردد الضلال بينهم وبين أنفسهم، والمراد: إنا على هدى وأنتم في ضلال، وإنما لم يصرح به لئلا تصير هنا نكتة، هو أنه خولف في هذا الخطاب بين "على" و"في" بدخول "على" على الحق و"في" على الباطل؛ لأن صاحب الحق كأنه على فرس جواد يركض به حيث أراد، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجه[20].
وهو يعلم أنه على الهدى وأنهم على الضلال، لكنه أخرج الكلام مخرج الشك تقاضيًا ومسامحةً ولا شك عنده ولا ارتياب[21].
قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴾ [سبأ: 26] ختم بصفة العلم؛ إشارة إلى الإحاطة بأحوالنا وأحوالكم، وما نحن عليه من الحق وما أنتم عليه من الباطل، وإذا كان عالمًا بذلك فنسأله القضاء علينا وعليكم بما يعلم منا ومنكم[22].
قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ ﴾ [سبأ: 51] أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم، للقصد إلى تفظيع حالهم، وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها فلا نخص بها رؤية راء، بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب، كقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴾ [26]، لم يُرَدْ به مخاطب معين، بل عُبِّر بالخطاب ليحصل لكل واحد فيه مدخل، مبالغةً فيما قصد الله من وصف ما في ذلك المكان من النعيم والملك، ولبناء الكلام في الموضعين على العموم لم يجعل لـ: "ترى" ولا لـ: "رأيت" مفعولاً ظاهرًا ولا مقدرًا ليشيع ويعم[27].
وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ ﴾ [سبأ: 51] أي: رأيت ما يعتبر به عبرة عظيمة[28].
وقوله: ﴿ فَلَا فَوْتَ ﴾ [سبأ: 51]، أي: فزعوا وأخذوا فلا فوت؛ لأن الفوت يكون بعد الأخذ[29].
[1] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - من أسباب التقديم والتأخير.. بالرتبة 3/ 159.
ألف شكر لكَ على هذا الموضوع المميز و المعلومات القيمة
إنـجاز أكثر رائــــــع
لكن أرجو منكَ عدم التوقف عند هذا الحد
مـنتظرين ابداعتــــــك
دمتـ ودام تألقـك
تحياتــي