لا, محال, مخصوصة, الترغيب, حال, صيام, في
لا, محال, مخصوصة, الترغيب, حال, صيام, في
الصيام في اللغة: هو الإمساك، ومن هذا قول الله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}
[1].أي صمتًا.
والمراد بـ"خيل صيام" أي: ممسكة عن السير. ويقال لكل ممسك عن شيء من طعام أو كلام أو عن أعراض الناس وعيبهم: إنه صائم.
والصيام في اصطلاح الفقهاء: هو الإمساك عن المفَطِّرات بنية من شخص مخصوص في وقت مخصوص، الإمساك بنية يدل على أن الصيام لا بد له من النية -كما سيأتي-، والمفَطّرات هي الأكل والشرب والجماع، وهذه مفطرات متفق عليها -وسيأتي الخلاف فيما عداها-.
وقولنا: من شخص مخصوص، هو المسلم المكلّف الخالي عن الموانع؛ ذلك أن المرأة يشترط خلوها عن حيض وعن نفاس.
وقولنا: في وقت مخصوص، هو من طلوع الفجر الثاني -أو الفجر الصادق- إلى غروب كامل قرص الشمس.
وقد فرض الله تعالى
صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة بالإجماع، وكان فرضُه تدريجيًّا، حيث أوجب الله تعالى الصيام على التخيير بينه وبين الإطعام عن كل يوم مسكينًا مع تفضيل الصيام؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 184) ثم أوجب الله تعالى الصيامَ في حق غير المريض والمسافر، وقضاءً في حقهما إذا زال العسر..
وللصوم فوائد عظيمة وحِكم كثيرة؛ منها:
أن الصيام من أكبر العون على تقوى الله تعالى؛ لأن له تأثيرًا في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.(البقرة: 183).
والصوم فيه تربية للإرادة، وتعويد على الجهاد، وتقوية على طريق الصبر والتحمل، على ما فيه من الفوائد الصحية؛ فهو يطهر البدنَ، ويقوي النفسَ، ويكسب البدن صحةً وقوةً. وقد ثبت أن التعبد لله تعالى بترك شهوات النفس ومألوفاتها من أعظم ما يقرّب العبد إلى ربه -تبارك وتعالى-، ومن أعظم ما يلتمس به رضوان الله -جل وعلا-؛ حيث قدم ما يحبه الله ويرضاه على ما تشتهيه نفسه وتهواه..
وقد دلّت نصوص كثيرة على فضائل عديدة للصيام، وما فيه من جزيل الثواب وعظيم الأجر، فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رتب على
صيام يوم في سبيل الله أن يُباعد الله -تبارك وتعالى- النارَ عن وجه الصائم سبعين خريفًا، وجعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-
صيام رمضان كفارةً للذنوب، وعتقًا من النار، ((فَمَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر))، ((ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه))، وفي رواية أيضًا عند النسائي: ((وما تأخر))، ((ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا)) كان له مثل ذلك من الأجر أيضًا..
وما ذاك إلا لأن شهر رمضان كان محلًّا لنزول القرآن، كما قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: 185)، فتعظيمًا لشأن هذا القرآن عظِّم شهرُ رمضان بالصيام، ولا تحصل هذه البركات وتلك الثمرات إلا لِمَن صام رمضان صيامًا كاملًا صحيحًا بعيدًا عما حرَّم الله؛ فصام عن الطعام والشراب والنكاح، وصام عن السماع المحرم، والنظر المحرم، والكلام المحرم، والكَسْبِ المحرم، ذلك أن: ((مَن لم يدع قولَ الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر))
[2].
هذا الحديث يتضمن نوعًا آخر من أنواع صوم التطوع وهو صوم الست من شوال، وهذا فيه فضل
صيام ستة
أيام من شوال لمن صام شهر رمضان؛ ليجمع بين الفضيلتين بين
صيام رمضان وصيام الست من شوال، ويكون بذلك كمن صام الدهر يعني السنة؛ وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان عن عشرة أشهر وست من شوال عن شهرين، فالمجموع اثنا عشر شهرًا وهذه هي السنة، فمن صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال حصل له أجر من صام السنة كلها وهذا فضل من الله تبارك وتعالى.
قال الإمام الصنعاني-رحمه اله-:
" قوله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا)) هَكَذَا وَرَدَ مُؤَنَّثًا مَعَ أَنَّ مُمَيَّزَهُ أَيَّامٌ وَهِيَ مُذَكَّرٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَدَدِ إذَا لَمْ يُذَكَّرْ مُمَيَّزُهُ جَازَ فِيهِ الْوَجْهَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النُّحَاةُ ((مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْآلِ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: "يُكْرَهُ صَوْمُهَا قَالَ: لِأَنَّهُ مَا رَأَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهَا، وَلِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ النَّصِّ بِذَلِكَ لَا حُكْمَ لِهَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا هَذَا الْحَدِيثُ يَعْنِي: حَدِيثُ مُسْلِمٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْرَ صَوْمِهَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَامَهَا مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُتَوَالِيَةً وَمَنْ صَامَهَا عَقِيبَ الْعِيدِ، أَوْ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ.
وَفِي "سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ" عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ مُتَفَرِّقًا فَهُوَ جَائِزٌ قُلْت: وَلَا دَلِيلَ عَلَى اخْتِيَارِ كَوْنِهَا مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ؛ إذْ مَنْ أَتَى بِهَا فِي شَوَّالٍ فِي أَيِّ أَيَّامِهِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَتْبَعَ رَمَضَانَ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِصِيَامِ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَرَمَضَانُ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَسِتٌّ مِنْ شَوَّالٍ بِشَهْرَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ الدَّهْرِ وَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَاعْلَمْ: أَنَّهُ قَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ: إنَّهُ قَدْ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ لَا فَهْمَ لَهُ مُغْتَرًّا بِقَوْلِ التِّرْمِذِيِّ إنَّهُ حَسَنٌ يُرِيدُ فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَخِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قُلْت: وَوَجْهُ الِاغْتِرَارِ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَصِفْهُ بِالصِّحَّةِ بَلْ بِالْحُسْنِ وَكَأَنَّهُ فِي نُسَخِهِ وَاَلَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي (سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ) بَعْدَ سِيَاقِهِ لِلْحَدِيثِ مَا لَفْظُهُ: قَالَ أَبُو عِيسَى: "حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ثُمَّ قَالَ: وَسَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ"، انْتَهَى، قُلْت: قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ: إنَّهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سَعِيدٌ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ. انْتَهَى.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ وَقَدْ اعْتَنَى شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ بِجَمْعِ طُرُقِهِ فَأَسْنَدَهُ عَنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا رَوَوْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَأَكْثَرُهُمْ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ مِنْهُمْ السُّفْيَانَانِ وَتَابَعَ سَعْدًا عَلَى رِوَايَتِهِ أَخُوهُ يَحْيَى وَعَبْدُ رَبِّهِ وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَوْبَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَعَائِشَةُ وَلَفْظُ ثَوْبَانَ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَشَهْرُهُ بِعَشَرَةٍ وَمَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. "[3].
وقوله: ((ستًا من شوال)) دل على جواز أن يصومها متتابعة أو متفرقة، وأنه يجوز أن تصام أول الشهر أو في وسطه أو في آخره؛ لأنه قال: ((ستًا من شوال)) ولم يقيد ذلك بوقت معين من شوال. والأفضل أن يكون صيامها متتابعًا وذلك طلبًا للمسارعة إلى الخيرات ومبادرة بها، ولئلا يعرض للإنسان ما قد يمنعه من صيامها إذا هو أخرها. وأما من عليه القضاء فإن عليه أن يبدأ به أولًا ثم يصوم هذه الأيام، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صام رمضان)) ومن عليه
أيام من رمضان فإنه لا يصدق عليه أنه صام رمضان حتى يقضيها، ولأن المسارعة إلى أداء الواجب وإلى إبراء الذمة مطلوب من المكلف.
والظاهر من قولي أهل العلم: أنه إذا انتهى شهر رمضان ولم يصمها أنها لا تقضى؛ لأنها سُنة فات محلها، والشارع خصها بشوال فلا يحصل فضلها لمن صامها في غيره، وذلك لفوات مصلحة المبادرة بها والمسارعة التي يحبها الله تعالى للطاعة..
فإن كان عذر من مرض أو حيض أو نفاس فمن أهل العلم من أجاز قضاءها بعد أن يصوم ما عليه من رمضان، واختار ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ومنهم من قال: لا يشرع قضاؤها بعد شوال لما تقدم، وهذا اختيار الشيخ ابن باز عليه رحمة الله..
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفًا)) متفق عليه واللفظ لمسلم
" وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضِيلَةِ الصَّوْمِ فِي الْجِهَادِ مَا لَمْ يَضْعُفْ بِسَبَبِهِ عَنْ قِتَالِ عَدُوِّهِ وَكَانَ فَضِيلَةً، ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ جِهَادِ عَدُوِّهِ وَجِهَادِ نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَشَهْوَتِهِ، وَكَنَّى بِقوله ((بَاعَدَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا)) عَنْ سَلَامَتِهِ مِنْ عَذَابِهَا" انظر سبل السلام".
حديث أبي سعيد ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله...)) المراد بسبيل الله هنا الغزو للجهاد، فإذا صام الغازي في سبيل الله اجتمعت له فضيلتان: فضيلة الصيام وفضيلة الجهاد، واجتمع له جهاد النفس وجهاد العدو، وهذا يفضي إلى أن يباعد الله تعالى النار عن وجهه يوم القيامة سبعين خريفًا، أي سبعين سنة، وذاك فضل الله العظيم الذي يدل على فضيلة الصيام في الغزو، ولكن بشرط ألا يشق عليه ذلك مشقة تضعفه عن الجهاد في سبيل الله.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المراد بسبيل الله طاعة الله تعالى؛ بأن يصوم قاصدًا وجه الله سواء كان هذا في جهاد أو في غيره، وهذا قول قال به القرطبي وقواه بعض أهل العلم، وذكر السبعين في هذا الحديث وردت على سبيل المبالغة في البعد العظيم عن النار، وكثيرًا ما تجيء عبارة عن التكثير، كما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل
صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان" متفق عليه واللفظ لمسلم
وأما حديث عائشة -رضي الله عنها- الذي أورده المصنف وهو قولها: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم..." هذا دليل على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يسرد الصوم في بعض الأحيان ويسرد الفطر في بعض الأحيان، ولعل الحكمة من هذا أنه كان يراعي المصلحة فإذا كثرت أشغاله وتوالت أعماله أخر الصوم، فيشتغل بمصالح الخلق، والصوم قد يضعفه عن ذلك، فإذا خفت الأعمال وقلت المشاغل سرد الصوم، وعلى هذا فلم يكن لصومه أو لفطره وقت خاص.
وهكذا ينبغي للمسلم أن يتحرى من الأوقات أنسبها حتى لا يعطله الصوم عن أمر أهم، ويتحرى الأوقات المناسبة للفطر حتى يشتغل فيها بما يلزم، وما يحتاج إلى نشاط وقوة، فكأن المسلم طبيب نفسه، ويتأسى في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يسرد الصيام ويكثر منه حتى يظن الظان أنه لن يفطر أبدًا من كثرة صيامه، وكان يفطر ويطيل الإفطار حتى يظن الظان أنه لن يصوم أبدًا، وذلك للحكمة التي بيناها وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لكني أصوم وأفطر)) فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يعادل بين صيامه وإفطاره بحسب المصلحة، فلا يغلب جانبًا على جانب..
وأما قولها -رضي الله تعالى عنها-: "وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان" تعني أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يكثر الصيام في شعبان خاصة، حتى إنه كان يصوم أكثره أو كان يصوم أغلبه، وقد ورد في حديث أيضًا لعائشة: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يصوم شهرًا أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله" وقد أخرجه البخاري ومسلم. والمراد بالكل هنا الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال؛ والدليل على ذلك حديث الباب فإنه مفسر لهذا الحديث ومخصص له؛ لأنها قالت: "إنه -صلى الله عليه وسلم- لم يستكمل
صيام شهر إلا رمضان".
وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: "جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى أو اشتغل ببعض أمره".
وما الحكمة من إكثاره -صلى الله عليه وسلم- الصيام في شعبان؟ ورد ما يدل على شيء من هذه الحكمة في حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: "قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم في شعبان أو من شعبان قال: ((ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)) وقيل: الحكمة من هذا تعظيم رمضان فكأنه يشبه سنة فرض الصلاة القبلية، وذلك تعظيمًا لحق شهر الصوم..
" قوله ((هَلْ كَانَ يَخْتَصُّ مِنْ الْأَيَّامِ شَيْئًا: قَالَتْ لَا)): قَالَ اِبْن التِّين: اِسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى كَرَاهَة تَحَرِّي صِيَام يَوْم مِنْ الْأُسْبُوع، وَأَجَابَ الزَّيْن بْن الْمُنَيِّر بِأَنَّ السَّائِل فِي حَدِيث عَائِشَة إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ تَخْصِيص يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا أَيَّامًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ تَخْصِيصُهُ مِنْ الْأَيَّام بِالصِّيَامِ فَإِنَّمَا خُصِّصَ لِأَمْرٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ كَيَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَيَّام الْبِيض وَجَمِيع مَا عُيِّنَ لِمَعْنًى خَاصٍّ. وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ تَخْصِيص يَوْم لِكَوْنِهِ مَثَلًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْجَوَاب صَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فَقَدْ وَرَدْت فِيهِمَا أَحَادِيثُ وَكَأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ فَلِهَذَا أَبْقَى التَّرْجَمَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَام، فَإِنْ ثَبَتَ فِيهِمَا مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ عُمُوم قَوْل عَائِشَة لَا.
قُلْت: وَرَدَ فِي صِيَام يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، مِنْهَا حَدِيث عَائِشَة أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ مِنْ طَرِيق رَبِيعَةَ الْجَرْشِيّ عَنْهَا وَلَفْظُهُ ((أَنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَحَرَّى صِيَام الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس)) وَحَدِيث أُسَامَة ((رَأَيْت رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُوم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس، فَسَأَلْته فَقَالَ: إِنَّ الْأَعْمَال تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِم)) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ، فَعَلَى هَذَا فَالْجَوَاب عَنْ الْإِشْكَال أَنْ يُقَال: لَعَلَّ الْمُرَاد بِالْأَيَّامِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ كُلّ شَهْرٍ، فَكَأَنَّ السَّائِلُ لَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((كَانَ يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام)) وَرَغِبَ فِي أَنَّهَا تَكُون أَيَّام الْبِيضِ سَأَلَ عَائِشَةَ: هَلْ كَانَ يَخُصُّهَا بِالْبِيضِ؟ فَقَالَتْ "لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً" تَعْنِي لَوْ جَعَلَهَا الْبِيض لَتَعَيَّنَتْ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَكُون عَمَلُهُ دَائِمًا، لَكِنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَةَ بِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا فَكَانَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ صَامَهَا كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي "بَابُ صِيَامُ الْبِيضِ" وَأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى مِنْ حَدِيث عَائِشَة أَنَّهُ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((كَانَ يَصُوم مِنْ كُلّ شَهْر ثَلَاثَة أَيَّام، وَمَا يُبَالِي مِنْ أَيّ الشَّهْرِ صَامَ)) وَقَدْ أَوْرَدَ اِبْنُ حِبَّانَ حَدِيث الْبَاب وَحَدِيث عَائِشَة فِي صِيَام الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس وَحَدِيثهَا ((كَانَ يَصُوم حَتَّى نَقُول لَا يُفْطِر)) وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَيْنَهُمَا تَعَارُضًا وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْ كَيْفِيَّة الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّه بِذَلِكَ بِفَضْلِهِ.
قوله ((يَخْتَصُّ)) فِي رِوَايَة جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُور فِي الرِّقَاقِ "يَخُصُّ" بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ.
قوله ((دِيمَةً)) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ دَائِمَةً، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الدِّيمَةُ مَطَرٌ يَدُومُ أَيَّامًا، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَسْتَمِرُّ.
قوله ((وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ)) فِي رِوَايَة جَرِيرٍ "يَسْتَطِيعُ" فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ." [4]. وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: ((أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة)) رواه النسائي والترمذي وصححه ابن حبان
هذا الحديث فيه نوع آخر من
صيام التطوع، وهو
صيام ثلاثة
أيام من كل شهر
وفي حديث أبي هريرة أيضًا: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة
أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر
وأحاديث كثيرة جاءت في هذا المعنى أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر بصيام ثلاثة
أيام من كل شهر، والأفضل أن تكون -أي الأيام البيض- ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر. وسميت بأيام البيض لابيضاض لياليها بالقمر، أي لأنها ليال مضيئة يظهر القمر في جميع ليلها، ولو صام الثلاثة من أول الشهر أو من آخره فقد حصل المقصود. وتحري هذه الأيام وسط الشهر أفضل، وهذا لأن الحسنة بعشر أمثالها، فإذا صام ثلاثة
أيام من الشهر فيكون بمثابة من صام ثلاثين يومًا؛ كما أن الصلوات الخمس عن خمسين صلاة، فمن حافظ عليها كان كمن صلى خمسين صلاة..
وقال الصنعاني-رحمه الله-:
" وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ مَلْحَانَ ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَالَ: هِيَ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ)) وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا ((صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ثَلَاثِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ)) الْحَدِيثُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مُطْلَقَةً وَمُبَيِّنَةً بِغَيْرِ الثَّلَاثَةِ.
وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ((أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَصُومُ عِدَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ)) وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَا يُبَالِي فِي أَيِّ الشَّهْرِ صَامَ)) وَأَمَّا الْمُبَيِّنَةُ بِغَيْرِ الثَّلَاثِ فَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَالِاثْنَيْنِ مِنْ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى)) وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا دَالَّةٌ عَلَى نَدْبِيَّةِ صَوْمِ كُلِّ مَا وَرَدَ وَكُلٌّ مِنْ الرُّوَاةِ حَكَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَحَثَّ عَلَيْهِ وَوَصَّى بِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ.
وَأَمَّا فِعْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُشْغِلُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَيَّنَ الشَّارِعُ أَيَّامَ الْبِيضِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي يُنْدَبُ صَوْمُهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَقْوَالٌ عَشْرَةٌ "[5] وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.