وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الأَدَب الْمُفْرَد مِنْ حَدِيث أَنَس قال : (( كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِالشَّيْءِ يَقُول : اِذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلانَة فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَة لِخَدِيجَة )).[3]
و هذا كله من حب النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة حية وميتة ، والوفاء لها بعد موتها ، حتى أنه كان يتعهد صديقاتها بالطعام والسؤال والإحسان ، وذلك لإن الذي يحب إنسانًا فهو يحب كل ما يذكره به ويحب ما كان يحب وهذا واضح جلي من تعلق النبي صلى الله عليه وسلم الدائم بذكرها والثناء عليها وإكرام صديقاتها من أجل خديجة رضي الله عنها ، فبرغم طول العهد بالبعد عنها بعد موتها إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل ذاكرًا لها ، وشدة مبالغته في هذا الأمر هو الذي أثار تلك الغيرة الفطرية في قلب عائشة رضي الله عنها .
وعند أَحْمَد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ ، قَالَتْ : فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا ، حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا . قَالَ صلى الله عليه وسلم : مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا ، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ ))[5]
وفي رواية قَالَتْ عَائِشَة رضي الله عنها : فَقُلْت : أَبْدَلَك اللَّه بِكَبِيرَةِ السِّنّ حَدِيثَة السِّنّ ، فَغَضِبَ حَتَّى قُلْت : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لا أَذْكُرهَا بَعْد هَذَا إِلا بِخَيْرٍ ))
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ لَقَدْ أَعْقَبَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ امْرَأَةٍ - قَالَ عَفَّانُ - مِنْ عَجُوزَةٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ قَالَتْ : فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ تَمَعُّرًا مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ أَوْ عِنْدَ الْمَخِيلَةِ حَتَّى يَنْظُرَ أَرَحْمَةٌ أَمْ عَذَابٌ ))[6] وفي رواية قالت : (( فرأيته غضب غضبًا ، أُسْقطْتُ في خلدي ، وقلت في نفسي : اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيتُ ، قال : (( كيف قلتِ ؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس ، وآوتني إذ رفضني الناس ، ورزقت منها الولد ، وحرمتموه مني )) قالت : فغدا وراح عليَّ بها شهرًا)).[7]
قَوْلها : ( اِسْتَأْذَنَتْ هَالَة بِنْت خُوَيْلِد ) هِيَ أُخْت خَدِيجَة وَقَدْ هَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَة ( فَعَرَفَ اِسْتِئْذَان خَدِيجَة ) أَيْ صِفَته لِشَبَهِ صَوْتهَا بِصَوْتِ أُخْتهَا فَتَذَكَّرَ خَدِيجَة بِذَلِكَ . وَقَوْلها : " اِرْتَاعَ " مِنْ الرَّوْع أَيْ فَزِعَ ، وَالْمُرَاد مِنْ الْفَزَع لازِمه وَهُوَ التَّغَيُّر . وَوَقَعَ فِي بَعْض الرِّوَايَات " اِرْتَاحَ " أَيْ اِهْتَزَّ لِذَلِكَ سُرُورًا و هَشَّ لِمَجِيئِهَا ، وَسر بهَا لِتَذَكُّرِهِ بِهَا خَدِيجَة وَأَيَّامهَا . وَفِي هَذَا كُلّه دَلِيل لِحُسْنِ الْعَهْد ، وَحِفْظ الْوُدّ ، وَرِعَايَةِ حُرْمَةِ الصَّاحِب وَالْعَشِير فِي حَيَاته وَوَفَاته ، وَإِكْرَام أَهْل ذَلِكَ الصَّاحِب . وَقَوْله " اللَّهُمَّ هَالَة " أي اِجْعَلْهَا هَالَة أو أَيْ هَذِهِ هَالَة وَفِي الْحَدِيث أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَحَبَّ مَحْبُوبَاته وَمَا يُشْبِههُ وَمَا يَتَعَلَّق بِهِ . قَوْلها : ( حَمْرَاء الشِّدْقَيْنِ ) فعَائِشَة أَوْرَدَتْ هَذِهِ الْمَقَالَة مَوْرِدَ التَّنْقِيص ، وَاَلَّذِي يَتَبَادَر أَنَّ الْمُرَاد بِالشِّدْقَيْنِ مَا فِي بَاطِن الْفَم فَكَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ سُقُوط أَسْنَانهَا حَتَّى لا يَبْقَى دَاخِل فَمهَا إِلا اللَّحْم الأَحْمَر مِنْ اللِّثَة وَغَيْرهَا , وَبِهَذَا جَزَمَ النَّوَوِيّ وَغَيْره . ولم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بل رد عليها قولها و بين لها أنه لم يأت أحد مثلها ، و في الحديث بيان لشدة غضبه صلى الله عليه وسلم لمقولتها)).[8]
و من صور تلك المحبة و الشوق الدائم لكل ما يتعلق بخديجة
# ما رواه الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَط مِنْ طَرِيق تَمِيم بْن زَيْد بْن هَالَة عَنْ أَبِي هَالَة عَنْ أَبِيهِ : (( أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاقِد فَاسْتَيْقَظَ فَضَمَّهُ إِلَى صَدْره وَقَالَ : " هَالَة هَالَة " .
وهو ابن خديجة ، وربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أخو هند ، وقد تقدم ذكرهما في البداية
0 وهذا مُشْعِرٌ بِمَزِيدِ مَحَبَّةٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لهَا .[9]
ما روته عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ . قَالَتْ : فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً ، وَقَالَ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا . فَقَالُوا : نَعَمْ . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلا مِنْ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ : كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا ))[10] .
( فَلَمَّا رَآهَا ) : أَيْ الْقِلادَة ( رَقَّ لَهَا ) : أَيْ لِزَيْنَب يَعْنِي لِغُرْبَتِهَا وَوَحْدَتهَا ، وَتَذَكَّرَ عَهْد خَدِيجَة وَصُحْبَتهَا ، فَإِنَّ الْقِلادَة كَانَتْ لَهَا وَفِي عُنُقهَا . ( قَالَ ) : أَيْ لأَصْحَابِهِ ( إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا) : أَيْ لِزَيْنَب(أَسِيرهَا):يَعْنِي زَوْجهَا ( الَّذِي لَهَا ) و ما كان الصحابة رضوان الله عليهم يترددوا في فعل ذلك الأمر ، لما شعروا به من تغير حال نبيهم صلى الله عليه وسلم ورقته لما رأي قلادة خديجة ، ولما أحسه من مشاعر المحبة لبنته عليها السلام ، وما كانوا يستطيعون أن يؤخروا رغبة لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رضي الله تعالى عنهم .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ في أحدى روايات ذكر غيرتها : (( مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ . فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلا خَدِيجَةُ ، فَيَقُولُ : إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ))[11]، وعند أحمد ( أمنت بي إذ كفر بي الناس ، و صدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها ، و رزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء ) وعند مسلم قال صلى الله عليه وسلم (( إني رُزِقْت حُبَّهَا )).[12] 0 وهذا فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ حُبَّهَا فَضِيلَةٌ حَصَلَتْ .
(( لَمْ يَتَزَوَّجْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ ))[13] .
قال الحافظ في الفتح : (( وهذا مِمَّا كَافَأَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهِ خَدِيجَة فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّج فِي حَيَاتهَا غَيْرهَا ، وَهَذَا مِمَّا لا اِخْتِلاف فِيهِ بَيْن أَهْل الْعِلْم بِالأَخْبَارِ . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى عِظَمِ قَدْرهَا عِنْده وَعَلَى مَزِيد فَضْلهَا لأَنَّهَا أَغْنَتْهُ عَنْ غَيْرهَا . وَاخْتَصَّتْ بِهِ بِقَدْرِ مَا اِشْتَرَكَ فِيهِ غَيْرهَا مَرَّتَيْنِ ، لأَنه صلى الله عليه وسلم عَاشَ بَعْد أَنْ تَزَوَّجَهَا ثَمَانِيَة وَثَلاثِينَ عَامًا اِنْفَرَدَتْ خَدِيجَة مِنْهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا وَهِيَ نَحْو الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَجْمُوع ، فمكثت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم بمفردها خمسة عشر عامًا قبل البعثة وعشرة بعدها فهذه خمسة وعشرون ، وعاش صلى الله عليه وسلم مع باقي أزواجه ثلاثة عشر عامًا أي ما يعادل نصف المدة التي قضاها مع خديجة . وَمَعَ طُول الْمُدَّة فَصَانَ قَلْبهَا فِيهَا مِنْ الْغَيْرَة وَمِنْ نَكَد الضَّرَائِر الَّذِي رُبَّمَا حَصَلَ لَهُ هُوَ مِنْهُ مَا يُشَوِّش عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَهِيَ فَضِيلَة لَمْ يُشَارِكهَا فِيهَا غَيْرهَا )).[14] قال الذهبي : (( ومن كرامتها عليه صلى الله عليه وسلم أنها لم يتزوج امرأة قبلها ، وجاءه منها عدة أولاد ، ولم يتزوج عليها قط ، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها ، فوجد لفقدها ، فإنها كانت نعم القرين ، وكانت تنفق عليه من مالها ، ويتجر هو لها ))[15]
=-=-=-=
[1] البخاري 3534، مسلم 4463، 4465،الترمذي 1940، أجمد 23174. [2] الفتح 7/169 [3] صحيح الأدب المفرد [4] رواه مسلم 4467 [5] أحمد 23719، وأصله في مسلم وهو الحديث الذي قبله. [6] مسلم 4464 ، وأحمد 24016 واللفظ له . [7] قال شعيب الأرناؤوط ، إسناده حسن ، ونسبه الحافظ في الإصابة إلى كتاب الذرية الطاهرة للدولابي(سير أعلام النبلاء 1/112) [8] انظر فتح الباري 7/173ـ174 [9] فتح الباري 7/173 [10] أبو داود 2317، أحمد 25158. [11] البخاري 3534 [12] مسلم 4464 [13] مسلم 4466. [14] فتح الباري 7/170ـ171 [15] سير أعلام النبلاء 1/110
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك