في قراءة سنن الله في الكون , ولا ينظرون إلي مصائر من سبقوهم , وينسون أن للكون إلها واحد , هو الذي يرزقنا من السماوات والأرض , ويملك السمع والأبصار , ويخرج الحي من الميت , ويخرج الميت من الحي , وهو وحده الذي يدبر الأمر , لا شريك له في حكمه , ولا معقب لقضائه , وقديما وقف ذلك الأعرابي وهو يقرأ تاريخ من سبقه , فاعتبر به وقال :-
في الذاهبين الأوليـــــن من القرون لنا بصائـــــر
لما رأيت مواردا للقوم ليس لها مصـــــــــــــادر
ورأيت قومي نحوهـــــا يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلــــي ولا من الباقين غابــــــــر
أيقنت أني لا محالـــــــة حيث صار القوم صائـــــر
والعجيب أن :-
كل واحد منهم يظن أنه ليس كغيره , فيقول إني لست مثله , وحكمي ليس كحكمه , وشعبي ليس كشعبه , وإذا بنا نراه في ذات الوقت يقول نفس كلامه , ويخطو نفس خطواته , ويتخذ نفس وسائله , ثم يصير إلي نفس المصير ,
فقد جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقه سنن الله , وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إلي من يذكرهم بها , وقدر عليهم الضلال بسبب استهزائهم وإعراضهم فلن يهتدوا إذن أبدا , فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي , (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإن تَدْعُهُمْ إلَى الهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إذًا أَبَدًا (57) ) - الكهف –
- إن هناك قوة واحدة في هذا الوجود هي قوة الله ; وإن هناك قيمة واحدة في هذا الكون , هي قيمة الإيمان .
- فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه , ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة ,
- ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى ;
- ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله , ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلا .
- و تبين لنا كذلك : أين يكون الأمن وأين تكون المخافة ;
- وتعلمنا أن الأمن إنما يكون في جوار الله , ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس ;
وأن الخوف إنما يكون في البعد عن ذلك الجوار ولو تظاهرت أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس !
(2) الرسالة الثانية :
تعرض الآيات قوة الحكم والسلطان , قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر ; وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة , ولا ملجأ له ولا وقاية .
وقد علا فرعون في الأرض , واتخذ أهلها شيعا , واستضعف بني إسرائيل , يذبح أبناءهم , ويستحيي نساءهم , وهو على حذر منهم , وهو قابض على أعناقهم .
- وتدل على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد , ويقف الخير عاجزا والصلاح حسيرا ; ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال . عندئذ تتدخل يد القدرة سافرة متحدية , بلا ستار من الخلق , ولا سبب من قوى الأرض , لتضع حدا للشر والفساد . ( نجى الله موسي من القتل أولا )
ولكن النصر النهائي لا يتم تمامه إلا بعد استعلاء الإيمان في القلوب , والجهر بكلمة الحق في وجه الطغيان العاتي المتجبر , دون تلجلج ودون تحرج , ودون اتقاء التعذيب . ( النصر المؤزر لبني إسرائيل مع نبيهم )
وأن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته ; والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر ; بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم , فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم , وتربيهم , وتجعلهم أئمة , وتجعلهم الوارثين .
وقد روي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل , ليبادر بذبح الذكور , فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة , التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة ( وكانت هذه بمشورة من مستشاري السوء من الملأ من حوله , فهم لا يشيرون بخير أبدا ) . ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون ; ويقدر غير ما يقدر الطاغية .
إن الطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم فينسون إرادة الله وتقديره ; ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون , ويختارون لأعدائهم ما يشاءون . ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون .
والله يعلن هنا إرادته هو , ويكشف عن تقديره هو ; ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما , بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلا:
ها هي ذي أمه حائرة به , خائفة عليه , تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين , وترجف أن تتناول عنقه السكين ........
ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة , عاجزة عن حمايته , عاجزة عن إخفائه , عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه ; عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة . . . ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة .
هنا تتدخل يد القدرة , فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة , وتلقي في روعها كيف تعمل , وتوحي إليها بالتصرف:
يا لله ! يا للقدرة ! يا أم موسى أرضعيه . فإذا خفت عليه وهو في حضنك . وهو في رعايتك . إذا خفت عليه وفي فمه ثديك , وهو تحت عينيك . (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي )إنه هنا . . في اليم . .
- في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها ,
- اليد التي لا خوف معها .
- اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها .
- اليد التي تجعل النار بردا وسلاما , وتجعل البحر ملجأ ومناما .
- اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب .
( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ )
- أهذا هو الأمن ? أهذا هو الوعد ? أهذه هي البشارة ?
نعم ! ولكنها القدرة تتحدى تتحدى بطريقة سافرة مكشوفة . تتحدى فرعون وهامان وجنودهما . إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفا على ملكهم وعرشهم وذواتهم . ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر . .
- فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر . وأي طفل ? إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين !
- ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردا من كل قوة ومن كل حيلة , عاجزا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد !
- ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفاح المتجبر , ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل , وفي أحضان نسائهم الوالدات !
(5) الرسالة الخامسة :
ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية وتعيد موسى إلى أمه :
إن قوة فرعون وجبروته , وحذره ويقظته , لا تغني عنه شيئا ; بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير , المجرد من كل قوة وحيلة , وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ترعاه عين العناية , وتدفع عنه السوء , وتعمي عنه العيون , وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا , فتدفع به إلى حجره , وتدخل به عليه عرينه , بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه , مكفوف الأذى عنه , يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه ,
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته , بعد ما اقتحمت به عليه حصنه . لقد حمته بالمحبة . ذلك الستار الرقيق الشفيف . لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال . حمته بالحب الحاني في قلب امرأة . وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره . .
وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف ! (قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ).
يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفا من أن يكون من بنى إسرائيل , فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه وتذب دونه إلى فرعون , فقالت :- « قرة عين لي ولك » فقال فرعون :-
أمالك فنعم وأما لي فلا فكان كذلك وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه وقوله « عسى أن ينفعنا » وقد حصل لها ذلك وهداها الله وأسكنها الجنة بسببه وقوله « أو نتخذه ولدا » أي أرادت أن تتخذه ولدا وتتبناه وذلك أنه لم يكن لها ولد منه وقوله تعالى « وهم لا يشعرون » أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة
إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره , وتكيد به لفرعون وآله ; فتجعلهم يلتقطونه , وتجعلهم يحبونه , وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه , وتحرم عليه المراضع , لتدعهم يحتارون به ; وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه , وهم يخشون عليه الموت أو الذبول ! حتى تبصر به أخته من بعيد , فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع , فتقول لهم: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)? فيتلقفون كلماتها , وهم يستبشرون , يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب !
وينتهي الأمر وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة . معافى في بدنه , مرموقا في مكانته , يحميه فرعون , وترعاه امرأته , وتضطرب المخاوف من حوله وهو آمن قرير . وقد صاغت يد القدرة هذا الأمر من تدبيرها العجيب:
(لقد أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى فما نفعه ذلك مع قدرة الملك العظيم الذى لا يخالف أمره القدري ولا يغلب , بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه , بل يكون هذا الغلام الذى احترزت من وجوده , وقتلت بسببه ألوفا من الولدان , إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفي دارك , وغذاؤه من طعامك , وأنت تربيه وتدلله وتتفداه , وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه , لتعلم أن رب السماوات العلا هو القاهر الغالب العظيم , القوى العزيز , الشديد المحال الذى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ) - تفسير ابن كثير –
الرسالة السادسة : ثم ماذا كان بعد ذلك ..... ؟
كان أن تحقق الوعد آخرا , كما تحقق أولا, فأما ينو إسرائيل فهذا ما تحقق لهم :
فقد جعل الله فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين , فجعلهم أئمة دعاة إلي الخير يؤتم ويقتدي بهم , (وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)) - الأعراف –
هذا مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة المطاردة من الشرك وأهله ;
ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض , فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة بما صبروا لينظر كيف يعملون
نقرأ هذه الآيات الكريمة وغيرها فنرى كيف يطغى الباطل في صولته و يعتز بقوته، و يطمئن إلى جبروته و يغفل عن عين الحق التي ترقبه، حتى إذا فرح بما أوتي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، و أبت إرادة الله إلا أن تنتصر للمظلومين و تأخذ بناصر المهضومين المستضعفين , فإذا الباطل منهار من أساسه , و إذا الحق قائم البنيان متين الأركان , وإذا أهله هم الغالبون ،
وليس بعد هذه الآيات الكريمة وأمثالها من آيات كتاب الله عذر في اليأس والقنوط لأمة من أمم الإسلام تؤمن بالله ورسوله وكتابه. ؟
لمثل هذا يا أخي وهو كثير في دين الله يجب أن لا يجد اليأس طريقا إلي قلوبنا , من أن ينزل نصر الله على هذه الأمة رغم ما يبدوا أمامها من عقبات ، ويجب أن يمتلئ صدرك بالأمل في النجاح , فليس اليأس من أخلاق المؤمنين ,
وحسبك شرفا أن تموت في ميدان الجهاد لخير أمتك , وعلى ضوء هذا الأمل يجب أن نعمل عمل الآمل المجد و الله المستعان. (والله غالب على امره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
فهل يحسن الطغاة من بعد قراءة هذا التاريخ ؟ ولا يصر الفراعين أن يموتوا غرقى ؟
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك