د. يوسف علي فرحات
الحمد لله رب العالمين نَحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا نظير له ولا مثيل له، رب العالمين وقيوم السموات والأرضين وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله سبحانه وتعالى بالحق المبين والصراط المستقيم، اللهم اجعل فضائل صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تَحننك على صاحب الأنفاس الزكية والطلعة البهية والنفس الرضية والمهجة التقية واليد الوفية وذروة السلالة الهاشمية وعلى آله وصحابته تلك النخبة الأبية، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته كما وأحذركم من عصيانه ومخالفة أمره لقوله عز من قائل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد ).
وبعد: أيها الأخوة المؤمنون المرابطون على أرض الرباط ك يقول مولانا سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) . صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء القسط يا رب العالمين.
أيها الأخوة الأكارم: أخرج الإمام البخاري ومسلم في صحيحها عن عمر بن الخطاب t أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك يوم عيد فقال: أي آيه؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، نزلت ورسوله e قائم بعرفة يوم جمعة. أيها الأخوة الكرام : في مثل هذا اليوم من العام العاشر من الهجرة وقف النبي e بعرفة ليخطب في جيش من الصحابة وفدوا إلى الموسم من كل فجٍ عميق حيث زاد عددهم على المائة ألف، خطب فيهم خطبته العصماء، خطبة الوداع والتمام والكمال . هذه الخطبة التي أنصتت لها الدنيا بإنسها وجنها وأشجارها وبحارها وسماءها وأرضها حيث أعلن في هذه الخطبة الميثاق الخالد لحقوق الإنسان هذا الميثاق نتيه به نحن المسلمين فخراً على الأمم ، ومما قاله عليه أفضل السلام في هذه الخطبة إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ ثُمَّ قَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُبُهَا إِلَى النَّاسِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ) [ أخرجه أبو داود برقم 1628]
هذه أيها الأخوة الأحباب : هي خطبة حَجة الوداع، خُطبة الكمال والتمام، لذلك نزل قوله تعالى على إثرها:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) وقد فهم عمر من الآية إشارة أن أجل رسول الله قد دنا ، لذلك يُروي أنه لما نزلت هذه الآية بكى عمر t وقال والله ما بعد الكمال إلا النقصان .
لقد كان حجة النبي e في هذا اليوم إعلاناً عن إكمال الدين وذلك أن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك ولا أحد منهم ، هذا قول أكثر العلماء ، فَكَمُل بهذه الحجةِ التي أخذوا مناسكها عن رسول الله e أركان الإسلام كلها.
ومن مظاهر إكمال الدين وإتمام النعمة في هذا اليوم أن الله تعالى أعاد على يد نبيه e الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام، ففي هذا اليوم اضمحل الشرك وهُدمت مَناراته وبنيانه، ولم يَطف بالبيت بعد هذا اليوم عريان . لذلك أيها الأخوة المؤمنون : كان يومُ عرفه يوم عيد كما ذهب إلى ذلك عمر t وابن عباس رضي الله عنهما وقد قال ابن عباس تعقيباً على الآية: (نزلت في يوم عيدين يوم جمعة ويوم عرفة ).
ويشهد لكلامه ما رواه عقبه بن عامر من حديث الإمام الترمذي بسند حسن صحيح أن النبي e: ( يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ) [ أخرجه الترمذي برقم 704] .
لهذا لا يشرع لأهل الموسم الواقفين بعرفة صيام يوم عرفة لأنه أول أعيادهم وأكبرُ مجامعهم وقد أفطره النبي e والناس ينظرون . وعندما سئل سفيان بن عيينه عن حكمة منع أهل الموسم من صيامه قال: لأنهم زُوارُ الله وأضيافه ، ولا ينبغي للكريم أن يُجوعَ أضيافه . أيها الأخوة الأكارم:
يوم عرفه، اليوم التاسع من ذي الحجة ، وهو من أفضل الأيام عند الله على الإطلاق ، يليه يوم الجمعة، فكيف إذا اجتمع، عرفة والجمعة في يوم واحد، ويؤكد ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي e قال: (أفضل الأيام يوم عرفه ). وذهبت طائفة أخرى من العلماء أن أفضل الأيام هو يوم النحر اليوم العاشر وذلك لحديث عبد الله بن قرط كما عند ابن خزيمة والحاكم والبيهيقي بإسناد صحيح أن النبي e قال: ( أعظمُ الأيامِ عند الله يوم النحر ثم يوم القَر ) . ويوم القر هو اليوم التالي ليوم النحر، الذي وصفه القرآن الكريم بيوم الحج الأكبر، وروي أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفه . وأخرج الإمام النسائي في تفسيره وأحمد في المسند من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في تفسير قوله "والشفع والوتر" أن الشفع هو يوم عرفة والوتر يوم النحر وأخرج أحمد في المسند من حديث أبي هريرة مرفوعاً أنه هو الشاهد وذلك في قوله تعالى " وشاهد ومشهود" الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم الجمعة. وروى النسائي في كتاب التفسير بإسناد حسن أن الشاهد هو محمد e والمشهود هو يوم القيامة. أيها الأخوة الأفاضل : وإذا كان الصيام يُندبُ ويُستحبُ في الأيام الأولى من ذي الحجة، فإنه يتأكد أكثر في يوم عرفه وذلك في حق أهل الأمصار من غير الحجيج وذلك لما اخرجه مسلم في صحيحة من حديث أبي قتادة الأنصاري عن النبي e قَالَ : (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ). لذلك ينبغي على المسلم أيها الأخوة في هذا اليوم أن يُشغله بالصيام والصلاة والذكر فهذا يوم يَتجَّلى الله فيه على عباده، فاحرص أخي المسلم أن تحفظ جوارحك عن المحرمات في هذا اليوم حتى تشملك رحمة الله ومغفرته، ففي المسند عند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي e قال : ( إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ حَفِظَ فِيهِ بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ ). وأفضل الدعاء أيها الأخوة في هذا اليوم كلمة التوحيد، كلمة الإخلاص، كلمة التقوى فقد أخرج الإمام الترمذي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال e: (خير الدعاء دعاء يوم عرفه وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) . أيها الأخوة المؤمنون:
هذا اليوم هو يوم المغفرة الشاملة، يوم العتق من النار لأهل الموسم وأهل الأمصار لذلك أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي e قال: ( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ) . وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي e قال: (ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهلَ السماء فيقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غُبراً ضاحين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي فلم يُر أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفه ) وأخرج بن مندة في "كتاب التوحيد" بإسناد حسن (إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة: يا رب فلان مرهق فيقول: قد غفرت لهم ، فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة).
وذكر المندري في الترغيب والترهيب من حديث أنس عن النبي e قال: (يهبط الله إلى السماء الدنيا عشية عرفة ثم يباهي بكم الملائكة فيقول هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً من كل فج عميق يَرجون رحمتي ومغفرتي فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه). أيها الأخوة المؤمنون:
يوم عرفة يوم يُعظَّم فيه الرحمن ويُحقَّر فيه الشيطان، هذا يوم الصيام، يوم الصلاة، يوم الذكر، لهذا كله يَصْغُر الشطان ويغتاظ . أخرج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كُريز أن النبي e قال: ما رُؤى الشيطانُ يوماً هو فيه أصغرَ ولا أحقرَ ولا أغيظَ منه يوم عرفة ). أيها الأخوة المسلمون:
وقد كانت أحوال الناس بعرفة متنوعة ، فمنهم من كان يَغْلُبُ عليه الخوف أو الحياء، فقد وقف مُطَرِّف بن عبد الله الشِّخير وبكر المزني فقال أحدهما: اللهم لا تَردَ أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم.
ووقف أحدُ الصالحين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء فقيل له لم لا تدعو فقال أجدُ وحشة ، فقيل له هذا يوم العفو عن الذنوب فبسط يديه ووقع ميتاً.
وروي عن الإمام الرياشي قال : رأيت احمد بن المُعذّل في الموقف في يومٍ شديد الحر، وقد ضَحَى للشمس –يعني لم يستظل بشيء عن الشمس- فقلت له يا أبا الفضل: هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة، فقال أحمد :
ضَحيتُ له كي أستظلَ بظله إذا الظلُ أضحى في القيامة قَالِصاً
فيا حسرتا إن كان سَعْيُك باطلاً ويا أسفا إن كان حجك ناقصاً
وهذا اجتهاد من أحمد بن المُعذل حرصاً منه على الأجر ولكن رسول الله e وهو خير البشر أستظل في يوم عرفة . ومن الناس بعرفة من كان يغلب عليه الرجاء، قال ابن المبارك جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تَذْرفان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قال : الذي يظنُ أن الله لا يغفر له . ورويَ عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانقاً –يعني سدس درهم- أكان يردهم ؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرةُ عند الله، أهون من إجابة رجل لهم بدانق .
إذا تبين لك أخي المسلم أحوال الناس في الموقف فاعلم أنه يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً، وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) أيها الأخوة المؤمنون:
جاء في الخبر: (إن لله في دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ) فهذه نفحات ذي حجة وعرفة تَهبُ عليكم فتعرضوا لها ، وحذاري أن تُضيعوها بالغفلة فاليوم عمل بلا حساب وغذاً حساب بلا عمل .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك