حسن الجابر - جدة
من شاطئ البحر غرباً، وحتى طريق الحرمين السريع شرقاً، يمتد شارع "فلسطين" بمدينة جدة، على أكثر من 15 كيلومتراً، وهي المسافة الأكثر كثافة وازدحاماً في المدينة الساحلية، مما جعل الشارع الشهير يستأثر بالنصيب الأكبر من مشاريع تحرير الحركة المرورية من الاختناقات، حيث شهد إنشاء أطول جسر يتم تنفيذه في مدينة جدة، فضلا عن إلغاء ست إشارات مرورية تمت الاستعاضة عنها بأنفاق وجسور حديثة.
لهذا الشارع من اسمه نصيب، عندما قام الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، بداية السبعينيات، بتغيير اسم الشارع إلى "فلسطين" كي يضطر دبلوماسيو "القنصلية الأميركية" لكتابة اسم دولة فلسطين في مراسلاتهم البريدية، فيما لم يعرف على وجه التحديد الاسم السابق للشارع، حيث تقول روايات إن اسمه كان شارع "الصيادية". حلقة وصل
أسباب اقتصادية وسياحية واجتماعية جعلت من هذا الشارع الأشد كثافة وازدحاماً بالزائرين، لكن القاسم المشترك بين هذه الأسباب يتمثل في كون الشارع حلقة الوصل بين شقي المدينة، حيث يفصل شارع فلسطين بين شمال جدة وجنوبها، محدثاً نسيجين متباينين، جزء شمالي يلاحظ فيه ملامح العمران الحديث، وجزء جنوبي يمثل أحياء جدة القديمة، والتي كانت في الأساس قلب عروس البحر الأحمر، قبل أن تمتد شمالاً بشكلٍ سريع، فاق تصورات خبراء التخطيط.
يقول الباحث الاقتصادي محمد الشهراني لـ"العربية.نت" إن من أبرز أسباب الازدحام السكاني في هذا الشارع هو استئثاره بما يقارب 90% من محال الجوالات في جدة، حيث تصطف على جانبيه أسواق ضخمة يتواجد بها الآلاف من المحال.
وأوضح الشهراني أن أسواق الجوالات تعود للعام 1998 مع ظهور أول شبكة جوال في السعودية، حيث تحول الشارع إلى مقر لمحال خطوط وأجهزة الجوال القليلة حينها، نظراً لارتفاع تكلفة رأس المال المطلوب، فضلاً عن تخوف التجار من الدخول في هذا السوق الجديد، قبل أن يثبت العكس، حيث جاءت في 2004م الشبكة الثانية لتؤكد نجاح السوق في مجال صناعة الاتصالات. سوق أسماك
الآلاف من زائري هذا الشارع، قد لا يجهلون تاريخ هذا الشارع الذي كان في الأصل حاجزاً ترابياً يتواجد به عدد قليل من الأكشاك الصغيرة لبعض من يعملون في صيد الأسماك، وذلك بحسب ما أكده محمد الشريف أحد أعيان جدة لـ"العربية.نت": "الشارع كان تجمعا للصيادين، بسبب قربه من شاطئ البحر الأحمر من جهة الغرب، وهي الميزة التي جعلت الولايات المتحدة الأميركية، تفتتح أول قنصلية لها على مشارف الشارع، عام 1942". يسكن الذاكرة
من جهته، قال الشهراني، إن "شارع فلسطين" يسكن ذاكرة السعوديين كواجهة للسياح والقادمين من خارج جدة، حيث شهد الشارع ولادة الفنادق الأجنبية التي افتتحت أولى فروعها على جوانبه، كما أن شارع فلسطين هو ذاته الذي شيّد عليه أكبر مركز تجاري بالعالم العربي في ثمانينيات القرن الماضي، تحت مسمى مركز الشرق الأوسط، قبل أن يندثر مع طفرة "المولات" التجارية، مشيراً إلى أن الشارع شهد أيضاً ظهور أولى مطاعم الوجبات السريعة الأجنبية العاملة بنظام "الفرانشايز"، والتي ساهمت في إحداث طفرة اجتماعية وثقافية في السلوك الغذائي للمجتمع السعودي، وهو ما جسّد مفارقة شاسعة بين معالم الشارع الجديدة، وبين معالمه القديمة قبل ثلاثة عقود.
ولا تقتصر أهمية شارع فلسطين على ما يتضمنه من خدمات اقتصادية واجتماعية فقط، بل تمتد أهميته إلى التاريخ والثقافة، حيث تمثل الأحياء الواقعة على ضفافه من جهة الجنوب، أشهر أحياء جدة القديمة، والتي كان لسكانها دور مهم في ازدهار الحياة الفنية والأدبية والاجتماعية بالمنطقة.
وأضاف الشهراني: "شارع فلسطين كان ملهما للعديد من أهل الثقافة والفن، حيث ينتهي الشارع عند ملامسة شاطئ البحر الأحمر، وتحديداً عند نافورة جدة العملاقة، في مشهد يحرك بوصلة الفن والأدب، والسكون والهدوء في قلوب عشَاق البحر والباحثين عن لحظات مفعمة بالهواء العليل في مدينة صاخبة".
وأوضح الشهراني أنه من خلال شارع فلسطين يمكن تحديد المؤشر الاقتصادي للمدينة، وما إذا كانت في حال رواج، أو كساد، منوهاً إلى أنه رغم النصائح التي تقدمها مدارس التسويق الجديدة بضرورة الابتعاد عن المنافسين عند تأسيس المشروعات التجارية، إلا أن الشارع يخضع للمفهوم التسويقي القديم، والقائم على تجمع المتخصصين في تقديم خدمة معينة في منطقة واحدة، وهو ما حول الشارع إلى شريان حيوي، يمتلك حصة الأسد من تجمعات الشقق المفروشة والفنادق ومحال تأجير السيارات والمطاعم، فضلا عن الجوالات، وهو ما يمثل للزائرين فرصة الحصول على كل ما يريدونه في شارع واحد فقط.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك