أو عن سبب كون الهلال يبدو ضعيفًا ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم، ثم يأخذ في النقص، فأجيبوا عن الحكمة في ذلك، لأنها الأهم، وهي التي يحتاجون لبيانها، كما في قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾، فأجيبوا بقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215].
﴿ مَوَاقِيتُ﴾ جمع ميقات، من الوقت، أي: يعرف بها الناس مواقيت عباداتهم من الصيام والحج، وأوقات الزكاة، والكفارات، وعدة النساء، وغير ذلك، مما يحتاج إلى توقيت من أمور دينهم ودنياهم كوقت حلول الديون والإجارات وغير ذلك.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يومًا»[2].
﴿ والحج ﴾ أي: ومواقيت للحج، كما قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197]، وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
وهي أيضًا مواقيت للصيام، كما قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه ﴾ [البقرة: 185].
وخص الحج بالذكر- والله أعلم- لكثرة أشهره؛ ولأن هذه الآيات توطئة وتمهيد لذكر أشهر الحج وأحكامه.
سبب النزول:
عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: «نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا، فجاؤوا، لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه، فكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)»[3].
قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ﴾ «البر» اسم «ليس» مرفوع، والباء في قوله: «بأن» زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى للنفي، و«أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر، في محل نصب خبر «ليس» أي: وليس البر إتيانكم البيوت من ظهورها.
و«البر» في الأصل: اسم جامع لكل خصال الخير الظاهرة والباطنة، وهو ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب.
قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب، وورش عن نافع، وحفص عن عاصم: ﴿ البيوت ﴾ بضم الباء، وقرأ الباقون بكسرها ﴿ البِيُوتَ ﴾ في جميع القرآن.
قوله: ﴿ مِنْ ظُهُورِهَا ﴾ «من» بيانية، و«ظهورها»: خلفها، أي: وليس البر، ولا من أعمال الخير، التي يتعبد لله - عز وجل - بها إتيان البيوت من خلفها، تسلقًا وتسورًا للجدران، كما كان يفعله كثير من أهل الجاهلية، إذا أحرموا بحج أو عمرة زعمًا منهم أنه لا يجوز للمحرم أن يدخل تحت سقف، وهذا باطل.
والمُحْرِم إنما يُمنع من تغطية رأسه بشيء مباشر، ولا يمنع من الدخول تحت سقف ونحوه، وإنما هذا من الابتداع في الدين، كما هو شعار الرافضة أخزاهم الله.
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ﴾ قرأ نافع وابن عامر بتخفيف النون في «لكن»؛ ورفع «البرُّ» على أنها مبتدأ، وقرأ الباقون بتشديد النون ﴿ وَلَكِنَّ ﴾، ونصب ﴿ البر ﴾ على أنها اسم «لكن».
والمعنى: ولكن البار من اتقى، أو ولكن البر بر من اتقى الله، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
و«البر» يفسر بالتقوى، كما تفسر التقوى بالبر في حال انفراد كل منهما عن الآخر، لكن في حال اجتماعهما يفسر كل منهما بمعنى، كما في قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، فالبر هنا يراد به فعل المأمورات، والتقوى ترك المنهيات.
﴿ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾، لمَّا بين - عز وجل - أنه ليس من البر إتيان البيوت من ظهورها أتبع ذلك بالأمر بإتيان البيوت من أبوابها كما هو المعتاد؛ لأنه الأيسر، إذ لا فائدة في إتيانها من ظهورها، وليس فيه سوى المشقة.
وكما ينبغي إتيان البيوت من أبوابها ومداخلها المعروفة؛ لأنه الأيسر والأصلح، وهو المعتاد، فكذلك ينبغي إتيان كل أمر من الأمور من بابه المناسب الموصل إليه، بأقرب وأيسر طريق.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، إذ إن هذا هو حقيقة البر.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي: لأجل أن تفلحوا، وتفوزوا وتحصلوا على المطلوب، وهي الجنة غاية المطالب، وتنجوا من المرهوب، وهي النار، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
[2] أخرجه عبدالرزاق في المصنف، والحاكم في المستدرك، وقال: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، وأخرجه أحمد (4/ 23)، من حديث قيس بن طلق عن أبيه رضي الله عنه، وروي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورُويَ من كلام علي رضي الله عنه؛ انظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 326).
[3] أخرجه البخاري في الحج قول الله تعالى: ﴿ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: 189] (1803)، ومسلم في «التفسير» (3026).
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك