[read] للشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بتصرف الحمد لله وبعد .. إن الواجب على كل مسلم أن يحرص في هذه الحياة تمام الحرص على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولزوم نهجه وسلوك طريقته ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21] . ومن يتأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أيامه ولياليه وأوقاته جميعا يجده مليئ بالمحافظة على الطاعة والإتيان بالعبادة على التمام والكمال ، ولنتأمل - عباد الله - هدي النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقوم في الصباح مستيقظاً من نومه يقوم مقبلاً على طاعة الله محافظاً على أوامر الله يستهلُّ يومه بذكر الله تعالى ودعائه والاستعانة به والإقبال عليه جل وعلا وطلب العون والممدد منه في أن ييسر له في يومه كلِّه العلمَ النافعَ والعمل الصالح والرزق الطيب ، ثم يتبع الدعاء بالعمل صلوات الله وسلامه عليه . لنتأمل - عباد الله - في هذا المقام العظيم ذلكم الدعاء العظيم الذي كان يواظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ يوم بعد صلاة الصبح لنرى في هذا الدعاء منهجاً مباركا وهدياً قاصدا كان عليه رسولنا صلوات الله وسلامه عليه ؛ روى الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه : عن أم سلمة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا )) وفي رواية (( وَعَمَلاً صَالِحَا )) وهو حديثٌ صحيحٌ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم . إن من يتأمل هذا الدعاء العظيم يجد أن الإتيان به في هذا الوقت بعد صلاة الصبح في غاية المناسبة ؛ لأن الصبح هو بداية اليوم ومفتاحه ، والمسلم ليس له مطمع في يومه إلا تحصيل هذه الأهداف العظيمة والمقاصد الجليلة المذكورة في هذا الحديث وهي : العلم النافع ، والرزق الطيب ، والعمل الصالح وكأنه في افتتاحه ليومه بذكر هذه الأمور الثلاثة دون غيرها يحدد أهدافه ومقاصده في يومه ، ولا ريب - عباد الله - أن هذا أجمعُ لقلب الإنسان وأضبط لسيره ومسلكه ، بخلاف من يصبح دون أن يستشعر أهدافه وغاياته ومقاصده التي يعزم على القيام بها في يومه ونجد المعتنين بالسلوك والآداب يوصون بتحديد الأهداف في كل عمل يقوم به الإنسان وفي كل سبيل يسلكه ليكون ذلك أدعى لتحقيق أهدافه وأسلم من التشتت والارتباك وأضبط له في مساره وعمله وما من شكٍ أن من يسير وفق أهداف محددة ومقاصد معيَّنة أكمل وأضبط وأسلم ممن يسير دون تحديد هدف ودون تعيينٍ لمقصد . والمسلم – عباد الله - ليس له في يومه بأجمعه بل ليس له في أيامه كلها إلا الطمع في تحصيل هذه الأهداف الثلاثة وتكميلها ونيلها من أقرب وجه وأحسن طريق ؛ وعلى هذا - عباد الله - فما أجمل أن يُفتتح اليوم بذكر هذه الأمور الثلاثة التي تحدِّد أهداف المسلم في يومه وتعين غاياته ومقاصده . وليس المسلم في إتيانه بهذا الدعاء في مفتتح يومه يقصد تحديد أهدافه فحسب ؛ بل هو يتضرع إلى ربه ويلجأ إلى سيده ومولاه بأن يمنّ عليه بتحصيل هذه المقاصد العظيمة والأهداف النبيلة ، إذ لا حول له ولا قوة ولا قدرة عنده على جلب نفعٍ أو دفع ضر إلا بإذن ربه سبحانه ، فهو إليه يلجأ وبه يستعين وعليه يعتمد ويتوكل ؛ فقول المسلم في كل صباح (( اللهم إني أسألك علماً نافعا ورزقاً طيبا وعملاً صالحا )) هو استعانةٌ منه في صباحه وأول يومه بربه سبحانه بأن ييسر له العسير ويذلل له الصعاب ويعينه على تحقيق غاياته المباركة وأهدافه الحميدة . تأمل كيف بدأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدّعاء العظيم بسؤال الله العلمَ النافع قبل سؤاله الرزق الطيب والعمل الصالح ؛ وفي هذا إشارة إلى أن العلم مقدَّمٌ وبه يُبدأ كما قال الله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل ، وفي البدء بالعلم النافع حكمةٌ ظاهرة لا تخفى على المتأمل ألا وهي : أن العلم النافع به يستطيع المرء أن يميِّز بين العمل الصالح وغير الصالح ويستطيع أن يميز بين الرزق الطيب وغير الطيب ، ومن لم يكن على علمٍ فإن الأمور قد تختلط عليه فيقوم بالعمل يحسبه صالحاً نافعا وهو ليس كذلك ، والله تعالى يقول : ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:103-104] وقد يكتسب رزقاً ومالاً ويظنه طيباً مفيدا وهو في حقيقته خبيثٌ ضار ، وليس للإنسان سبيل إلى التمييز بين النافع والضار والطيب والخبيث إلا بالعلم النافع ؛ ولهذا تكاثرت النصوص في الكتاب والسنة وتضافرت الأدلة في الحث على طلب العلم والترغيب في تحصيله وبيان فضل من سلك سبيله ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر:9] . وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (( علماً نافعا )) فيه دلالة على أن العلم نوعان : علم نافع وعلم ليس بنافع ، وأعظم العلم النافع ما ينال به المسلم القُربَ من ربه والمعرفة بدينه والبصيرة بسبيل الحق الذي ينبغي أن يسير عليه ، وتأمَّل في هذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة:15–16] ؛ فحريٌّ بالمسلم في يومه أن يعتني بالقرآن الكريم وبمذاكرته ومدارسته وتدبره والعمل به وأن يعتني بسنة النبي صلى الله عليه وسلم المبينة له والشارحة لدلالاته ومقاصده . وقوله في الحديث (( ورزقاً طيبا )) فيه إشارة إلى أن الرزق نوعان : طيِّبٌ وخبيث ، والله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيبا وقد أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [المؤمنون:51] وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة:172] ، وقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتحليل الطيب وتحريم الخبيث كما قال تعالى: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف:157] فحري بالمسلم في يومه أن يتحرى المال الطيب الحلال والرّزق السليم النافع ، ويحذر أشد الحذر من الأموال الخبيثة والمكاسب المحرمة . وقوله في الحديث (( وعملا مُتَقَبَّلاً )) وفي رواية (( وعملاً صالحا )) فيه إشارة إلى أنه ليس كل عمل يتقرب به الإنسان إلى الله يكون متقبلا ؛ بل المتقبل من العمل هو الصالح فقط . والصالح - عباد الله - : هو ما كان لله وحده وعلى هدي وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال الله تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك:2] قال الفضيل بن عياض في معنى الآية : أي أخلصُه وأصوبه ، قيل يا أبا علي وما أخلصه وأصوبه ؟ قال إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل حتى يكون خالصاً صوابا ، والخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السُّنة . فهذا دعاء عظيم النفع كبير الفائدة يحدد للمسلم الأهداف العظيمة والمقاصد الجليلة والمنهج المبارك الذي ينبغي أن يكون عليه في يومه بل في كل أيامه ، ولهذا - عباد الله - يحسُن بالمسلم أن يحافظ عليه كل صباح تأسياً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ثم يُتبِع الدعاء بالعمل فيجمع بين الدعاء وبذل الأسباب لينال هذه الخيرات العظيمة والأفضال الكريمة والله وحده الموفق والمعين على كل خير فنسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لكل خير ، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح والرزق الطيب .[/read]
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك