وثاني الجانبين: هو قوله تعالى على لسان فرعون: ﴿
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، ولا شك في أن ليس المراد به جريان الأنهار من تحت فرعون مباشرة. ويُفهم من ﴿
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ أمران: أولهما: هو القدرة على التصرُّف الحر في ما في مصر من حجرٍ ونهر، وبهذه القدرة على التصرف يستقيم عطف ﴿
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ على ﴿
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾، وثانيهما: هو تباهي فرعون بأُبَّهتِه، ومن مظاهر تلك الأبهة التي أراد تذكير أتباعه بها أن قصره مشرفٌ على النهر أو أنه على شاطئ النهر، وليس في الآية ما يعني أن قصره في داخل النهر. وعلى النحو نفسه يُفهَم - فيما أحسب - قوله تعالى: ﴿
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ أو قوله تعالى: ﴿
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ﴾ أو قوله تعالى: ﴿
تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ﴾؛ فهذا الوصف يعكس منازل أصحاب هذه الجنات من جهة، ويعني تصرُّفهم المطلق فيها من جهة أخرى.
ويبدو - والله أعلم - أن ﴿
جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ﴾ ليس إلا وصفًا لجنات مخصوصة لفئة مخصوصة من المؤمنين، هم ﴿
السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فقط، وليس لجنات كلِّ من دخل الجنة. وهذا يعني أن هذه الفئة المخصوصة أعلى مقامًا من عموم المؤمنين الآخرين، وأن جناتهم تقع على الأنهار مباشرة؛ ولهذا أسقطت (مِن) في وصفها، وأما الآخرون، فهم يلُونهم في المرتبة، وقريبون من الأنهار، ولكن ليسوا على شاطئها مباشرة كسابقيهم؛ فوُصفت جناتهم بأنها ﴿
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾؛ لتعكس (مِن) هذه الفاصلَ المكاني، الذي هو فاصل مقامٍ ومنزلة، ولئن جاز لنا التصور فإن جنات الأنبياء عليهم السلام كائنة في وسط الأنهار، وحينئذٍ يكون الأنبياء في مركز الدائرة وحولهم ﴿
السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾، وحولهم المؤمنون الآخرون، والله أعلى وأعلم.
﴿
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا ﴾، فقد تكون الثياب خضراء في اللون، وهو لون يبعث راحة وطمأنينة في النفس، ولكن المعنى الذي يكون أقرب إلى دوام النعيم ودوام الشعور به هو أن تكون ﴿
خُضْرًا ﴾ دالةً على الجدة؛ أي: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا جديدةً، وحينئذٍ يُفسح المجال أمام تنوع الألوان أيضًا ليزيد أهل الجنة بهجة وسرورًا، وكذلك - فيما أحسب - ينبغي أن يُفهم قوله تعالى في سورة الرحمن: ﴿
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴾ [الرحمن: 76]، وقوله تعالى: ﴿
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ [الإنسان: 21]، والله أعلم.
6- ﴿
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ﴾ [الكهف: 52].
والغريب أن هؤلاء الضالين الذين لم يستجيبوا لله في حياتهم الدنيا - يستجيبون لأمره الصادر إليهم على سبيل التقريع في اليوم الآخر، ﴿
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ ﴾، وليست استجابتهم هذه في حقيقتها نابعةً من الامتثال والخضوع للأمر؛ بل من فساد الجوهر؛ فهم ما يزالون يعتقدون النفع والنجدة من الشركاء ﴿
فَدَعَوْهُمْ ﴾، وكان حريًّا بهم وقد انكشف لهم بطلان معتقدهم أن يعتذروا لربِّهم عما كانوا فيه من جهل وغَواية حين أمَرَهم بدعوة شركائهم، لا أن يدْعُوهم. وإذ كانت هذه حالهم؛ فقد شهدوا على أنفسهم بدوامهم على الكفر حتى بعد رؤيتهم العيانية لضلالهم، فكان أن أيقَنوا أنهم واردو النار لا محالة ﴿
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ﴾ [الكهف: 53].
7- ﴿
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ [الكهف: 66 - 71].
تبيِّن هذه الآيات المباركات أدبَ التلمذة وحدَب الأستاذ، فموسى عليه السلام موعود بلقاء الرجل الصالح، ولكنه يستأذنه في اتباعه ليتعلم منه؛ أي: إنه - وهو نبي - يُظهر تواضُعَه للرجل ويُقِر له أنه أعلم منه، وبهاتين الخصيصتين يُستحصل العلم: التواضع مهما كان الشأن عاليًا، ومعرفة الفضل لأصحابه. وتبين أيضًا أن الرجل الصالح لم يحجب علمه، وأنه يبذله بشرطه، وبتبصير (طالبه) بوعورة ما هو مقدم عليه، فأبدى إشفاقه من ألا يتحمل موسى عليه السلام مجرياته، وتِبيانُ مشقة الطريق ينطوي على ضرورة عدم التغرير بالسالك الراغب في معرفة الحق، بل بتبصيره بما سيواجهه، فوعد موسى عليه السلام بالصبر والطاعة، وهما عُدَّةُ طلبة العلم، وبيَّن (الأستاذ) شرطه، وهو أن لكل شيء أوانًا، وأن على موسى أن يصبر إلى أن يأتيه تأويل ما يرى، وانطلق الاثنان بمجرد أن اتفَقا، ولأن صيغة حركتهما مثناة وليست جمعًا ﴿
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ﴾؛ فمن المحتمل أن الفتى لم يكن معهما، وربما ظل في مكانه في مجمع البحرين ينتظر عودة موسى عليه السلام.
وبدأ الدرس الأول بمجرد ركوب السفينة التي شرع العبد الصالح في خرقها، ولكن موسى عليه السلام تدخَّل؛ إذ لم يحتمل ما حصل، ولم يسأل العبدَ الصالح عن فعله بالقول مثلًا: لماذا خرقتَ السفينة؟ بل تجاوزه إلى ما هو أشد، فأنكَرَ الفعل بصيغة الاستفهام الإنكاري، وحكم عليه حكمًا سلبيًّا من غير أن ينتظر جواب الفاعل! ﴿
قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾؟! وتكرر منه الاستفهام الإنكاري والحكم في المرة الثانية أيضًا: ﴿
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]، وأما في المرة الثالثة، فإنه وإن لم يستطع السكوت إلا أنه تمالك نفسه فلم ينكر ولم يحكم، بل أبدى اقتراحًا ﴿
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الكهف: 77]، ولكن هذا الاقتراح عكس ما يجول في الخاطر من نفاد الصبر، فأصبح (الأستاذ) في حلٍّ من المواصلة بعد أن استنفد الفرص التي منحها "لتلميذه"، وأخبَرَه بالفِراق، وبيَّن له حكمة ما جرى ﴿
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 78].
ولأن الحكمة لم تكن مكشوفة لموسى عليه السلام بعدُ؛ فقد استعمل العبد الصالح عبارة ﴿
مَا لَمْ تَسْتَطِعْ ﴾ بتكرير التاء في ﴿
تَسْتَطِعْ ﴾؛ ليكون جرس الكلمة بهما وبالطاء دالًّا على المشقة، وقد خفف الكلمة بحذف التاء الثانية بعد تأويل الأحداث ﴿
ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82]؛ للإشارة إلى أن الأمر أخف من المشقة التي أبداها موسى عليه السلام، كما أن لفظة ﴿
تَسْطِع ﴾ كانت أخف من ﴿
تَسْتَطِع ﴾.
وتكررت هذه الكلمة بصيغتي الخفة والثقل في قصة ذي القرنين وبناء السدِّ ﴿
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ [الكهف: 97]؛ أما الأُولى - أي: ﴿
اسْطَاعُوا ﴾ - فإنها تعكس الانزلاق الذي يصاحب السعي لتسلق سطح أملس، وأما الثانية - أي: ﴿
اسْتَطَاعُوا ﴾ - فإنها تعكس الجهد المبذول لإحداث ثقب في جسم صلب.
8- ﴿
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: 79 - 82].
لقد ذكر العبد الصالح أن كل ما فعله لم يكن عن أمره هو ﴿
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾، ولكنه كان ينفذ إرادة الله ومراده، وقد عبَّر عن هذه الإرادة بثلاث صيغ: أُولاها هي ﴿
فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾، فنسب الإرادة إلى نفسه وكأنها إرادته هو، وكذلك كان حاله في نسبة الفعل؛ لأنه ألحق عيبًا بالسفينة يجعلها غير صالحة للمصادرة، فهو لكمال أدبه مع الله تعالى؛ لم يشأ أن ينسب ذلك العيب إليه سبحانه. وعبَّر في حادثة الغلام بأفعال الجمع ﴿
فَخَشِينَا ﴾... ﴿
فَأَرَدْنَا ﴾؛ مشيرًا إلى توحد إرادته بإرادة الله تعالى الذي هو وحده يقبض الروح ويرزق الولد، ولكن التعبير كان بصيغةٍ تجعل العبد الصالح في الواجهة، وفي هذا أيضًا مراعاة للأدب مع الله تعالى، فالخشية تناسبه هو، وأن قضاء الله بشأن الغلام جرى على يده هو، فصاغ الفعل بما يُظهر نسبته إليه هو. وأما في الحالة الثالثة، فقد نسب الإرادة إلى الله تعالى، واختفَتْ ذات العبد الصالح: ﴿
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾؛ لأن مجريات هذه الحادثة كانت رحمة خالصة، ولم تحتمل الإيحاء بما من شأنه أن يكون عيبًا أو نقصًا.
وفعَل ذو القرنين بعد الانتهاء من السد الشيءَ ذاته؛ إذ جعل ما فعله رحمة من الله تعالى، فـ ﴿
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴾ [الكهف: 98]، وكذلك هو شعور العاملين المؤمنين بما يقومون به في صالح العباد؛ إذ لا يرون أنفسهم، بل يرون الله تعالى وحده، وإليه ينسُبون ما وفقهم إلى فعله.
الالوكة