مع المثل القرآني
جاء هذا
المثل في قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].
• المثل المضـروب: الذي ينفق ماله رياءً كمثل الحجر الذي عليه تراب أصابه مطر شديد.
• المستفيدون من الخطاب: المؤمنون.
• نوع المثل: قياسي تشبيهي مركب.
شـرح الكلمات[1]:
• إبطال الصدقة: حرمان من ثوابها.
• (بالمن والأذى): المن: ذكر الصدقة وتعدادها على مَن تصدق بها عليه على وجه التفضل عليه، والأذى: التطاول على المتصدق عليه، وإذلاله بالكلمة النابية، أو التي تمس كرامته وتحط من شـرفه.
• (رئاء الناس): مراءاة لهم ليكسب محمدتهم، أو يدفع مذمتهم.
• (صفوان): حجر أملس.
• (وابل): مطر شديد.
• (صلدًا): أملس ليس عليه شيء من التراب.
• (لا يقدرون): يعجزون عن الانتفاع بشيء من صدقاتهم الباطلة.
ما زال السياق
القرآني في هذا
المثل يضع المتلقي في جانب تشجيع المؤمن وحثه على الإنفاق، وبيان ضوابطه، فقد كان
المثل الذي سبق هذا
المثل قد تناول مضاعفة أجر المنفق أضعافًا كثيرة، وهنا مثلُ مَن ينفق رياءً وسمعةً كصخرة عليها تراب، يظن الرائي لها أنها أرض خصبة فيها خير ونماء، ثم ما إن ينزل المطر الشديد من السماء، فإذا هي أرض صخرية لا نبت فيها، فقد جعل
المثل عبرته من نفس الجنس؛ بمعنى: أن الأصل عندما ينزل المطر يحصل الإنبات والخير، ولكن أن ينزل المطر فيفضح الحال ويبين ما ستر، فتلك إشارة بليغة.
فلا يكفي الإنفاق وحده للقبول والمضاعفة في الأجر، بل يحصل كل ذلك فقط عندما يكون هذا الإنفاق خالصًا لله سبحانه وتعالى؛ ففي (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أهل الجحيم): "وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى:
﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله سبحانه وتعالى، والصواب: أن يكون على السنة"
[2].
جاء في تفسير البحر المحيط: "﴿
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾ [البقرة: 264] هذا تشبيه ثان، واختُلف في الضمير في قوله:
﴿ فَمَثَلُهُ ﴾ فالظاهر أنه عائد على
﴿ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾؛ لقربه منه، ولإفراده ضـرب الله تعالى لهذا المنافق المرائي، أو الكافر المباهي - المثلَ بصفوان عليه تراب، يظنه الظانُّ أرضًا منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب، فيبقى صلدًا منكشفًا، وأخلف ما ظنه الظان، كذلك هذا المنافق يرى الناس أن له أعمالًا كما يُرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحلت وبطلت، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب، وقيل: الضمير في
﴿ فَمَثَلُهُ ﴾ عائد على المانِّ المؤذي، وأنه شُبِّه بشيئين:
أحدهما: بالذي ينفق ماله رئاء الناس.
والثاني: بصفوان عليه تراب.
ويكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى إفراد؛ قال القاضي عبدالجبار: "ذكر تعالى لكيفية إبطال الصدقة بالمن والأذى مَثَليْنِ، فمثله أولًا بمن ينفق ماله رئاء الناس، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأن إبطال نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها بالمن والأذى، ثم مثله ثانيًا بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار، ثم إذا أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما عليه تراب ولا غبار أصلًا، قال: فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان، فكذا المن والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صـريح القول في الإحاطة والتكفير؛ [انتهى كلامه]، وهو مبني على ما قدمناه عنه في القول في الإحباط والتكفير في قوله تعالى:
﴿ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ ﴾ من أن الصدقة وقعت صحيحة، ثم بطلت بالمن والأذى، وتقدم القول بأن المعنى: لا توقعوها باطلة، ويدل على هذا المعنى التشبيه بقوله:
﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ ﴾؛ فإن نفقته وقعت باطلة لمقارنة الكفر لها، فيمتنع دخولها صحيحة في الوجود"
[3].
وجاء
المثل بالتحذير الشديد من أن تكون الصدقات لغير وجه الله تعالى، فما في التصدق لوجه الله تعالى من الخير والجوائز الربانية ما ينبغي أن ينتبه إليها فاعلها ليحصل على أجرها كاملًا، ولا يضيعها إلا أحمق؛ فعن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبدالله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم))
[4].
والمثل يحذر كل التحذير من الرياء، والرياء أصله من الرؤية، وهي نظر الناس للمرء، والرياء سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشـرك الأصغر؛ فعن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جُزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً))
[5].
والرياء في هذا الباب يكون على نوعين:
1- الرياء المباشـر: وهو أن يعمل الفرد عملًا وغرضه أن يراه الناس، فيمدحونه ويثنون عليه، وقد يكون العمل صالحًا في ظاهره كالجهاد أو الصلاة أو الصيام أو الصدقة، ولكن القصد منه الرياء؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليُقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليُقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم ألقي في النار))[6].
2- الرياء غير المباشـر: وهو أن يكون العمل أصله لوجه الله تعالى، ثم تنحرف النيـة نحو كسب نظر الناس بذلك العمل.
كما جاء في
المثل ليلفت النظر إلى أولئك المتصدقين الذين ينسفون أعمالهم الصالحة في الصدقات بأنهم يذكِّرون من تصدقوا عليه بتذكيره في كل مناسبة وحين بأنهم قد تصدقوا عليه يومًا ما، أو ربما عادوا في صدقاتهم فاسترجعوها منه؛ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس لنا مثل السوء؛ العائد في هبته كالكلب يرجع في قيئه))
[7]، واللفظ جاء هنا عامًّا للصدقة ولغيرها مما يهب الإنسان من ماله للآخرين، فيكون هو والمرائي سواء في المكانة.
والمثل يشير أيضًا إلى أن إنفاق المرائي ينكشف مع أول اختبار وشدة؛ وذلك في قوله تعالى:
﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾ [البقرة: 264]، فقد انكشفت حقيقة الصخر مع أول نزول المطر الشديد بأنه لم يكن أرضًا خصبة، وكذلك الإنفاق لغير الله تعالى ينكشف مع أول اختبار يصادفه.
كما يلفت هذا
المثل الصريح النظر إلى أن المن والأذى في الصدقات يعادل الذي ينفق ماله رياءً، فقد شبه به بقوله تعالى:
﴿ كَالَّذِي ﴾ فالكاف للتشبيه، وهذا مؤشر على خطورة الموضوع، والمن والأذى قد تحصل من مؤمن، ولكن الله تعالى يبين لنا خطورة الأمر؛ من أجل أن نعيَه جيدًا ولا نقع فيه.
[1] أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري، ص: 256.
[2] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ابن تيمية، ص: 373.
[3] تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ج: 2، ص: 300 - 301.
[4] صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب: الريان للصائمين، ج: 2، ص: 671، حديث: 1798.
[5] مسند أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، ج: 39، ص: 39، حديث: 23630.
[6] صحيح مسلم، باب: من قاتل للرياء والسمعة، ج: 6، ص: 47، حديث: 5032.
[7] الأدب المفرد، البخاري، ص: 150، حديث: 417.
الألوكة