والمراد بقوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ الآية المؤمنون من هذه الأمة من الصحابة- رضوان الله عليهم- ومن بعدهم، والكتاب هو القرآن، فلما ذكر الله عز وجل عدم رضا اليهود والنصارى عنه صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، أتبع ذلك بما يؤنسه ويسليه ويقوي قلبه وهو أنه إن أبى اليهود والنصارى الإيمان به واتباع القرآن الكريم فإن أصحابه وأمته الذين أعطاهم الله هذا القرآن يتلونه حق تلاوته ويقومون بحقه ويتبعونه ويؤمنون به.
﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كونهم يتلونه حق تلاوته.
وقوله: ﴿ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ من إضافة الوصف إلى موصوفه، وهو مفعول مطلق، أي: يتلونه تلاوة حقاً، أي: التلاوة الحق.
والتلاوة تطلق على قراءته وتلاوة لفظه، قال تعالى: ﴿ تْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وعلى تلاوة معناه وتفسيره، وعلى تلاوة أحكامه باتباعها والعمل بها، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴾ [الشمس: 2]، أي: تبعها.
فمعنى ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ أي: يقرؤونه حق قراءته بتدبر ألفاظه وقراءته قراءة صحيحة وترتيله، كما قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 16 - 19]، وقال تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4].
ويتلونه حق تلاوته بتدبر معانيه وتفسيره حق التدبر.
ويتلونه حق تلاوته بتدبر أحكامه وأخباره ووعده ووعيده، حق التدبر، فيتبعون أحكامه ويعملون بها، امتثالاً لأوامره واجتناباً لنواهيه، ويصدقون أخباره ووعده ووعيده، فيرجون ما فيه من وعد ويخافون ما فيه من وعيد.
وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82، محمد: 24] أي: بتدبر ألفاظه ومعانيه وأحكامه، وهذا هو المراد من إنزال القرآن الكريم وغيره من كتب الله تعالى.
فمن لم يتلُ كتاب الله حق تلاوته بتدبره لفظاً ومعنى، واتباع أحكامه، وتصديق أخباره لم ينتفع بتلاوته، بل ربما كان أبعد الناس عن ذلك، ولهذا لم ينتفع الخوارج بقراءتهم القرآن، بل كان سبباً لمروقهم من الدين وخروجهم على أئمة المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"[1].
﴿ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ خبر المبتدأ "الذين"، أي: أولئك الذين يتلون القرآن حق تلاوته هم الذين يؤمنون ويصدقون به، وأشار إليهم بإشارة البعيد إشارة لعلو مرتبتهم ورفعة منزلتهم.
وأكد الخسران وحصره فيهم بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين وبضمير الفصل "هم" أي: فأولئك هم الخاسرون لا غيرهم، والذين بلغوا الغاية في الخسران، الذين خسروا الخسارة العظمى، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]، وقال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1- 3].
فالخسارة الكبرى والمصيبة العظمى هي الخسارة والمصيبة في الدين، التي ذهب فيها رأس المال مع الربح وكل شيء، فخسر الإنسان دينه ودنياه وأخراه، خسر نفسه وأهله وولده وماله، وقد أحسن القائل: وكل كسر فإن الله جابره
وما لكسر قناة الدين جبران[2]
فيكون المعنى: الذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى يتبعونه حق اتباعه ﴿ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي: يؤمنون بكتابهم الذي أنزل عليهم، وبالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن لدلالة كتبهم على ذلك، ويرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما جاء به لموافقته لكتبهم وتصديق كتبهم له، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ﴾ [القصص: 52 - 54].
﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ أي: ومن يكفر من أهل الكتاب بما أنزل عليهم ويكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [المائدة: 68].
وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"[3].
ولا مانع من حمل الآية على المعنيين، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن المراد بالكتاب في قوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ جنس الكتاب فيشمل التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها من كتب الله تعالى.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (361)، ومسلم في الزكاة (1064)، وأبو داود في السنة (4764)، والنسائي في الزكاة (2578) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2]البيت لأبي الفتح البستي. انظر: "ديوانه" ص80.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (153)- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك