تعليم القرآن العظيم للأولاد الصِّغار سُنَّة مُتَّبَعة عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين:
فعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ قال: إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ المُفَصَّلَ هُوَ المُحْكَمُ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَقَدْ قَرَأْتُ المُحْكَمَ [1].
وعَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عَباسٍ رضي الله عنهما: جَمَعْتُ المُحْكَمَ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا المُحْكَمُ؟ قَالَ: المُفَصَّلُ [2].
قال ابن كثير رحمه الله: «فيه دلالة على جواز تعليم القرآن في الصِّبَا، وهو ظاهر، بل قد يكون مُستحبّاً أو واجباً؛ لأنَّ الصَّبيَّ إذا تعلَّم القرآنَ بلغ وهو يعرف ما يُصلِّي به، وحِفظُه في الصِّغر أولى من حِفْظِهِ كبيراً، وأشدُّ عُلوقاً بخاطره، وأرسخُ وأثبتُ، كما هو المعهود من حال الناس»[3].
أمَّا أجر الوالدين؛ اللَّذين يعلِّمان أولادَهما كتابَ الله عزّ وجل ويصبران على ذلك، فهو أجر عظيم يتناسب وتعبهما وصبرهما وتحملهما المشقة في ذلك، بِأَنْ يُكْسَيا حُلَّتَين لا يقومُ لهما أَهْلُ الدنيا:
عن بُريدَةَ بن الحُصَيبِ رضي الله عنه قال: كُنْتُ عند رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إن القُرآنَ يَلْقَى صَاحِبَه يَوْمَ القِيَامَةِ حينَ يَنشَقُّ عنه قَبْرُهُ كالرَّجُلِ الشَّاحِبِ[4]، فيقولُ له: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: ما أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنا صَاحِبُكَ القُرآنُ الذي أَظمَأتُكَ في الهَوَاجِرِ[5]، وأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وإِنَّ كُلَّ تاجرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِه، وإِنَّكَ اليومَ مِنْ وَرَاءِ كلِّ تِجَارَةٍ، فيُعْطَى المُلْكَ بِيَمِينِهِ، والخُلْدَ بِشِمَالِهِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تَاجُ الوَقارِ، ويُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَينِ لا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنيا، فَيَقُولانِ: بِمَ كُسِيْنَا هذا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا القُرآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ، واصْعَدْ في دَرَجِ الجَنَّةِ وغُرَفِها، فَهْوَ في صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذّاً[6] كانَ، أَو تَرْتِيْلاً[7]»[8].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «وَيُكْسَى وَالدَاهُ حُلَّتَين، لا تَقُومُ لَهُمْ الدُّنيا وما فيها، فَيَقُولان: يا رَبِّ! أَنَّى لَنَا هذا؟ فَيُقَالُ: بِتَعْلِيمِ وَلَدِكُما القُرآنَ» الحديث [9].
وَحُقَّ لهذين الوالدين أن يَعْجَبا ويَدْهَشا مِنْ هذا الإنعام العظيم الذي حَصَلا عليه من حيث لا يحتسبان، فعندما يُكْسَى هذان الوالدان حُلَّتَين عظيمتين من حُلَلِ الجنة أغلى وأثمن من الدنيا وما فيها، يتساءلان في دهشة: مِنْ أين لنا مِثْلُ هاتين الحلتين وليس لنا - فيما نعلم - من العمل والطاعات ما يؤهِّلُنا للفوز بهذه الكرامة العظيمة؟
فَيُجابان: بتعليم ولدكما القرآن وصبركما عليه وإخلاص النُّصح له، وهكذا فإنَّ صاحب القرآن مِنْ أَبَرِّ الناسِ بوالديه، ولو عَلِمَ كَلُّ والِدين ما يحصل لهما عند الله تعالى من الكرامة والرِّفعة بأخذ ولدهما للقرآن العظيم لبادر إلى دفع أولادهما دفعاً، وحثِّهم حثاً على تعلُّمِ القرآن الكريم وتلاوته وتدبره [10].
وقد أحسن الشَّاطبيُّ رحمه الله حينما قال:
فَيَا أَيُّهَا القاري به مُتَمَسِّكاً
مُجِلاًّ لَهُ في كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلاَ
وهذا مِنَ الآثار الحسنة التي تُكتب في ميزان الوالدين؛ لأنهما السَّبب المباشر في تعليم هذا الولد، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾ [يس: 12].
والملاحظ في فضل تعلُّم القرآن وتعليمه عدَّة أمور؛ منها: عِظَمُ ثواب تعلُّم القرآن وتعليمه، واتِّساع دائرة المستحقِّين لهذا الثَّواب، فيشمل المُعلِّم، والمُتعلِّم، والوالدين، وترتُّب أنواع من الجزاء على بعضها البعض؛ فالمتعلِّم ينال جزاءً على تعلُّمه، ومثل هذا الجزاء يناله المعلِّم على تعليمه، إضافةً إلى الجزاء الخاصِّ بالمعلِّم في ذاته، وكذا الوالدين.
وهذا الثَّواب العظيم من الله تعالى لمعلِّم القرآن ومتعلِّمه وآبائهم يتناسب أوَّلاً: مع عظمة قدر هذا القرآن،
وثانياً: إنَّ ربط التَّعلُّم والتَّعليم بهذا الجزاء العظيم فيه تشجيع للنَّاس على تعلُّمه وتعليمه؛ ممَّا يُحقِّق ما أراد الله لكتابه من الحفظ في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
[4] (الشَّاحِب): هو المتغيِّر اللون لعارضٍ من مرض أو سفر أو نحوهما. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 448)، مادة: «شحب».
[5] (الهَوَاجِر): جَمْعُ هاجرة، وهو نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر، عند اشتداد الحر. انظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 244)، مادة: «هجر».
[6] (هَذّاً): الهَذُّ والهَذَذُ بفتح الهاء: هو سرعة القراءة وسرعة القطع، يقال: هَذَّ القرآنَ يَهُذُّه هَذّاً: إذا أسرع في قراءته وسَرْدِه. انظر: لسان العرب (6/ 4643)، مادة: «هذذ».
[7] (ترتيلاً): ترتيل القراءة: هو التَّأني فيها والتَّمهل وتبين الحروف والحركات. «النهاية في غريب الحديث»، (2/ 194)، مادة: «رتل» .
[8] رواه مُطوَّلاً أحمد في «المسند» (5/ 238)، (ح23000). وقال محققو المسند (38/ 42)، (ح22950): «إسناده حسن في المتابعات والشواهد من أجل بشير بن المهاجر الغَنَوي، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، وحسنه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1/ 62)، ولبعضه شواهد يَصِحُّ بها». ورواه مُخْتَصَراً الحاكم في «المستدرك» (1/ 742)، (ح2043)، وقال: «حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وأقره الذهبي.
[9] رواه الطبراني في «الأوسط» (6/ 51)، (ح5764). وأورده الألباني في «السلسلة الصحيحة» (6/ 792)، (ح2829)، وقال: «الحديث حسن أو صحيح؛ لأن له شاهداً من حديث بريدة بن الحصيب مرفوعاً بتمامه».