ذكر عز وجل في الآية السابقة قول الذين لا يعلمون: لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كما قال الذين من قبلهم وتشابه قلوبهم في الكفر والحسد والمكابرة والعناد، ورد عليهم بقوله تعالى: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 118]، ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ [البقرة: 119].
وفي هذا تأكيد لبيان الآيات، أي: إنا أرسلناك بالحق بالآيات البينات بشيراً ونذيراً.
قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ﴾ تكلم عز وجل عن نفسه بضمير العظمة "إنا". و"نا" لأنه العظيم سبحانه وتعالى، والخطاب للنبي وفيه إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، أي: إنا أرسلناك يا محمد أي: بعثناك، ولم يذكر المرسل إليه لإفادة العموم؛ لأنه مرسل إلى الناس كافة، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28] وقال عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158].
﴿ بِالْحَقِّ ﴾الباء للملابسة، والمصاحبة، أي: إنا أرسلناك متلبسا بالحق، ومصحوباً بالحق، أي: أن رسالتك حق، وما جئت به وهو القرآن حق، قال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ [الفتح: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
والحق: الثابت المستقر، ضد الباطل الزاهق الزائل، كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].
وهو أيضاً الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ [الأنعام: 115].
﴿ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾حالان، أي: حال كونك بشيراً ونذيراً، أي: بشيراً للمؤمنين بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، والفوز بالجنة،والنجاة من النار، كما قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البقرة: 25] وقال تعالى: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 21].
والبشير المخبر بما يسر، مأخوذ من البشرة؛ لأن الإنسان إذا أخبر بما يسره اتسعت بشرته واستنار وجهه، كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك منه"[1].
﴿ وَنَذِيرًا ﴾ للكافرين من النار والشقاء والعذاب، والنذير: هو المحذر المخوف من الشر.
والرسول صلى الله عليه وسلم محذر ومخوف من عذاب الله تعالى وعقابه، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 46].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً، فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفة، فأدلجوا على مهلهم، فنجوا، وكذبته طائفة، فصبَّحهم الجيش فاجتاحهم"[2].
وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان، ومثلي مثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه: أُتيتم، أُتيتم، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ذلك"[3].
وكما قال "لَقيطِ الأيادي" منذراً ومحذراً قومه من عواقب غزو كسرى من قصيدة كتبها لهم بعنوان: "صرخة غيور":
أبلغ إياداً وخلِّل في سراتهم
أني أرى الرأيَ إن لم يُعصَ قد نصعا
يا قوم لا تأمنوا إن كنتمُ غُيَرًا
على نسائكم كسرى وما جمعا
هذا كتابي إليكم والنذير معاً
لمن رأى رأيَه منكم ومن سمعا
وقد بذلت لكم نصحي بلا دخلٍ
فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا[4]
فمهمته صلى الله عليه وسلم بيان الحق، والشهادة على الخلق، والبشارة للمؤمنين، والإنذار للكافرين، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46].
كما أنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالعمل كغيره من الرسل والأنبياء، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].
﴿ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ قرأ نافع ويعقوب بفتح التاء وجزم اللام "ولا تَسألْ" على اعتبار أن "لا" ناهية والفعل مبني للفاعل أي: ولا تسأل يا محمد عن أصحاب الجحيم، فبئس الحال حالهم، حال لا يتصورها الإنسان، ولا يحيط بها الوصف من شدة وفظاعة ما هم فيه من العذاب.
وقرأ الباقون: ﴿ وَلَا تُسْأَلُ ﴾برفع الفعل على اعتبار "لا" نافية، والفعل مبني لما لم يسم فاعله، أي: ولا تُسأل يا محمد عن أصحاب الجحيم، وهم الذين كفروا بك، وقد بلغت رسالة ربك؛ لأن مهمتك تبليغ الرسالة والبشارة للمؤمنين والإنذار للكافرين وليس عليك هداية الخلق، ولا حسابهم، فذلك إلى الله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [المائدة: 99]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [الرعد: 40]، وقال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 21 - 26]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
وأصحاب الجحيم، أي: ملازموها وأهلها، وسموا أصحاب الجحيم لملازمتهم إياها كما يلازم الصاحب صاحبه، و"الجحيم": اسم من أسماء النار، أي النار المتأججة العظيمة الشديدة الحرارة التي يعلو بعضها بعضاً.
وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان حدود مهمته، ووعيد وتهديد للكافرين المخالفين المعاندين.