تقوم فلسفة تأهيل الكوادر البشرية الصحية من الأطباء والممارسين الصحيين من كافة الفئات على تخريج (الممارس الآمن) كأساس للبناء سواء كان ذلك في مرحلة البكالوريوس أو في المراحل المتقدمة كالزمالات الطبية والدكتوراه في شتى التخصصات الطبية كالتمريض والمختبرات والصيدلة والأشعة وما عداها، ثم يترك المجال للممارس الصحي لتطوير مهاراته وإثبات ذاته والاتجاه نحو الخدمة أو الأكاديمية أو البحوث، وعندما تفقد أو تختل معايير تخريج الطبيب والاختصاصي والفني الآمنين فإن ثمة نتيجة غاية في الخطر والسوء على المريض مستقبلا، ذلك أن وجود مخرجات غير آمنة بإمكانها إجهاض الجهد المبذول من قبل الفريق المعالج والقرار الطبي المتخذ من قبل ذلك الفريق، إذ إن التوجه الحديث في ممارسة المهنة الطبية يقوم على روح الفريق لا تفوق الفرد فالأمر قد انتقل من تقديم العلاج فقط إلى مفهوم الرعاية المتسع، الذي يحتاج إلى كافة الجهود لتقديمه بطريقة متناغمة ومتكاملة.
أسوق هذه المقدمة للحديث عن الجامعات الناشئة وكلياتها الطبية و التطبيقية أو الكليات الطبية الناشئة في جامعات قائمة، فعلى الرغم من ضرورة وجودها ومن الجهود المبذولة من قبل القائمين عليها إلا أن الملاحظ – وهذه الملاحظة جاءت من مناطق مختلفة وليست محصورة على منطقة بعينها – أن مخرجات هذه الكليات تعاني من إشكالية في التأهيل، يعود سببه فيما يبدو إلى روح (الطفرة) والاستعجال في البدء قبل اكتمال البنى التحتية الداعمة لتخريج الطالب بكفاءة مقبولة، فبعض الكليات وصل طالب الطب فيها إلى السنة الرابعة وهو لم ير (جثة) لتشريحها، وضعف اللغة الإنجليزية علامة جلية على الطلاب، أما المعاناة في السنوات السريرية فهي تعود لغياب المستشفيات الجامعية وحراكها الأكاديمي، الذي يلقي بظلاله على تأهيل الطالب، وإن الاستعانة بمستشفيات وزارة الصحة يواجه إشكالية مربكة تتمثل في أن هذه المستشفيات في كثير من المناطق تسودها روح (الخدمة) لا (التعليم)، وإن الزج بالطلاب في هذه البيئة يحتاج إلى إعادة هيكلة لتلك المستشفيات وإلى خطوات يتم فيها تأهيل المدربين المشاركين من منسوبي تلك المستشفيات كدعم وتعويض لنقص أساتذة كليات الطب، هذا فضلا عن صور بيروقراطية أخرى تعيق انسياب الطلاب والطالبات كنسيج يتجانس مع المستشفى ولا يتعامل معه المرضى أو الفئات مقدمة الخدمة كنسيج دخيل يتم رفضه بطرق ناعمة، وفي جميع الأحوال فإن استمرار الشراكة مصلحة للطرفين رغم صعوبة البدايات.
ومن المؤشرات التي تضيق أفق الطالب وتمنعه من الانطلاق، ما نلاحظه خاصة في المناطق الطرفية، فالطالب يدرس في منطقته ثم ينتمي لكلية طبية أو علوم طبية مساعدة في منطقته ثم يتدرب وهو طالب في مستشفى منطقته (الوحيد ربما) ثم يقضى الامتياز فيه ثم يتم توظيفه أيضا هناك!.
هذه الأحادية في التأهيل نرى أثرها بوضوح على المخرجات الفنية تحديدا، وهي تفسر كثيرا من عدم الرغبة في التطور وتحسين الذات بسبب غياب النماذج المختلفة المحفزة، ليظل الراتب حافزا وحيدا وشاهدا حيا على توقيعي الحضور والانصراف.
ومن المشكلات المتوقعة على ضوء الأعداد التي سيتم تخريجها سنويا -خاصة عنصر الأطباء- مواجهة إشكالية احتوائهم في برامج تدريبية محلية للدراسات العليا أو برامج ابتعاث خارجي، مما سيعني أن يقضي الطبيب السعودي وقتا أطول كطبيب مقيم ينتظر قبوله في برامج الدراسات العليا، مما يقتضي بطبيعة الحال تحرك الهيئة السعودية للتخصصات الصحية لمواكبة الوضع المتوقع، وكذلك وضع خطة توظيف لهذه الفئات، حيث أن المتوقع امتلاء المدن الرئيسية في كل منطقة وهذا يعني التوجه للمدن الأصغر بكل إشكالياتها المتوقعة إذا لم يخطط لذلك جيدا.
إن عودة المبتعثين قد تسد ولو جزئيا ثغرة النقص في الكوادر الأكاديمية، وإن استباق مشكلات المستقبل قد يخفف من سلبياتها عبر تفعيل الشراكة الرشيدة بين القطاعات الصحية المختلفة لكن كل ذلك لن يغني عن أهم حل في نظري وهو (ترشيد) القبول في هذه الكليات وتقليصه إلى نصف الأعداد الحالية لسنوات معدودات حتى يتم التحكم في كل العوامل المؤثرة في تأهيل هذه الفئة المهمة تأثيرا خاطئا، عدا ذلك فإننا سنكون أمام نفس المشكلة التي يواجهها خريجو الكليات الصحية من القطاع الحكومي والخاص فالخلل الرئيس والمشترك بينها هو (الطفرة) في الإنتاج لنقفز فجأة من النقص إلى البطالة!
إن توطين القطاع الصحي لا يصح أن يكون هدفا مستقلا عن الظروف المحيطة، التي تؤثر في إنتاج مخرجات قادرة على الممارسة الآمنة ثم المتفوقة، ذلك أن الفخر بالأعداد هنا (جاهلية) علمية لا تسوغ ولا تبرر.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك