يقضي معظم وقته وحيداً في طرف غرفة الجلوس على مقعد خصص له وعندما يصيبه الملل
يتجه لغرفته مستمعاً لبعض البرامج التي يبثها المذياع الذي اشتراه له ابنه البكر عندما استلم أول
راتب شهري له .. عاد بذاكرته للوراء وتذكر كم كان محاطاً بأبناءه وكم كان محط أنظارهم
واعجابهم ومركز اهتمامهم عندما يعود من عمله يلتف حوله الجميع ويعانقونه ويشتكي إليه
بعضهم بعضاً أو يأخذون برأيه في معظم أمورهم وعند عودته من السفر لا يغمض لهم جفن
حتى يدخل عليهم فيتسابقون اليه بمحبة ودفء ثم يبدأون بتفتيش جيوبه لعلهم يجدون قطعة
حلوى أو عملة ورقية يتنافسون عليها ومن ثم يوزع عليهم الهديا التي حملها لهم والكل يعجب
لهذا الأب الذي يعرف بغيّة كل منهم دون أن يخبره بما يريد!! وأخيراً يحمل كلاً منهم لفراشه
ويقبله ويدعو له بمستقبل باهر وكانت الأم تردد مبتسمة يا لك من أب محب! أين يجدون مثلك؟!
والآن مادوره؟! نكرره! يفرح كثيراً إذا سلم عليه أحد أحفاده أو سأله أحد أبناءه عن حاله أو إذا
كان يحتاج إلى طعام أو ذهاب لمشفى أو نزهة ولكن جوابه كان واحداً يتكرر ولا يتغير : أريد
فقط أن تجلسوا معي لدقيقة واحدة!! ولكنهم يعتذرون جميعاً بسبب انشغالهم أو أن حديثه
لا يجاري العصر حياته أصبحت رتيبه بعد وفاة زوجته منذ سنوات مضت فمن بعدها بدأت
صحته تتدهور وآماله تتراجع لفّه الحزن من كل جانب بعد أن نهشت روحه مخالب الوحدة
وحاصرته الظلمة وسيطرت عليه الهواجس حتى الكلمات لم يعد يعرف كيف ينطقها ونسي حتى
معناها لكثرة صمته وبقائه وحيداً فإذا ما خاطبه أحدهم تلعثم وأخذ يبحث عن كلمات تتماشى
ومحدثه ولكنه يفشل فيتركه الآخر ويذهب بحجة أن الشيخ لم يعد قادر على الحديث إن وجوده
في هذا المنزل كعدمه لا يعرفه أحد إلا في أوقات نادرة وحتى إذا خاطبوه فليس لكونه واحداً
منهم أو أساس هذا المنزل الذي يعيشون فيه وإنما كأنه أحد المارة من قرب البيت أو زائراً أتى
لحاجة ومضى : الإبن : أبي هل وجدت مفتاح سيارتي على الأريكة هذا اليوم؟ الحفيد: جدي أين
ذهب أخي؟ العاملة المنزلية: بابا أنت فيه يبغى أكل؟ السائق: بابا أنت فيه يروح مكان؟ زوجة
الإبن ( شاكية باكية ) : هل رأيت ابنك كيف رفض أن يشتري لي فستاناً لأحضر مناسبة فلان
أو زفاف فلانة؟ هذا نظام يومي حفظه عن ظهر قلب
ذات يوم ظن _ وكم يخيب الظن _ أن الحظ صادفه حينما مكث أصغر أحفاده معه
لأن الجميع تركه وذهب بعد أن رفضوا أخذه كعقاب له
_جدي.. ما بك؟
_إنني أشكو الوحدة والهجر يا بني
_كيف ذلك ونحن معك!!!
_نعم أنتم معي بالجسد ولكنكم بعيدون عني بالقلب والعقل واللسان
إنني يا بني أتوق لكلمة منكم
إنني أحتاج لوجودكم معي واهتمامكم بي
أنظر حتى أبوك هجرني ونسيني وكأنني أحد أمتعته التي استغنى عنها وانشغل بكم وبأعماله
وكأنه ليس بعضاً مني
إنني مهمل يا بني!!
أعيروني إهتمامكم فأنتم مازلتم بحاجة لوجودي
_كيف؟ وكأن الحفيد قد سئم هذه المحاضرة التي لم يفهمها
_هل هناك قول مأثور يقضي بهجري وتجاهلي..
لولاي لما كان لكم أب ولما كنتم..
هل أصبحت عبئاً عليكم وتفكرون بالتخلص مني؟
_معاذ الله يا جدي
_لقد شغلتكم الأنانية يا بني عني بينما شغلت بكم فكراً وقلباً
_ الأنانية ما معنى الأنانية؟
_أنظر لأبيك ومقدار النجاح الذي حققه والمركز الذي وصل له إنه بفضل الله ثم بفضل دعائي
له ليلاً ونهاراً وماذا كان المقابل يا بني؟ الهجر والإنشغال بالنفس والمال والولد
_أي ولد تقصد يا جدي..
هل أنت مريض تريد الذهاب للمشفى؟!
صمت الشيخ عندما علم أنه يتحدث مع من لا يفهم العبارة
أما الطفل فوجد شرود جده فرصة سانحة كي يهرب لمشاهدة التلفاز في نفس الغرفة
وفي المساء عادت الأسرة وألقت على الشيخ التحية وتأكدت من سلامة الطفل المعاقب ثم
انصرف كل منهم لشأنه بكى الجد حتى انفطر فؤاده فرآه الطفل ودهش لذلك نهض متكئاً على
عصاه التي كانت جزءاً منه ومن همومه ورفيقته في وحدته وأثناء توجهه لغرفته الموحشه خرّ
هاوياً على الأرض من فرط حزنه واستاء كثيراً عندما اكتشف أن عصاه لم تعد تحتمل جسده
المنهك صرخ الحفيد ونادى الجميع الذين هبّوا فزعين لنجدته طناً منهم أن مكرهاً أصاب الإبن!
ولكنهم وجدوا الشيخ ملقى على الأرض والدمع ينهمر من عينيه فحملوه للمشفى الذي مكث فيه
أسبوعاً كاملاً وحيداً في غرفته فلم يفكر أحد بزيارته أبداً ولم يتصل به أحد ولو عن طريق
الخطأ فالكل مشغول بنفسه اشتد حزنه وخنقته عبراته فبكى.. وبكى حتى علا صوت بكائه
واهتزت له أركان المشفى فجرى المرضى والأطباء مسرعين لغرفته وكان في حاله يرثى لها
رحم الجميع الشيخ ورحموا دموعه التي بلت لحيته ووجهه
سأله أحد الأطباء إن كان يشكو من شيء ما؟
_إنني أعاني من الوحدة أيها الطبيب
_هل لديك رقم هاتف أحد أبنائك نتصل به ليأتي ويأخذك من هنا فكل التقارير تشير إلى أنك بخير
ولا تعاني من شيء
_لماذا؟! أليس رقم هاتف أحدهم مسجلاً لديكم؟
_كلا فقد كانوا في عجلة من أمرهم عندما أحضروك لقسم الطوارئ ولم يتسن لأحدهم تسجيل
رقمه لعبت الوساوس بقلبه ولبه وتأكد أنهم لا يريدونه فقال للطبيب:
_لا أريد العودة للمنزل فأنا مازلت متعباً اتركوني وشأني ولكن بلغوا أبنائي أنني حقاً أشتاق لهم
كإشتياق شجرة جف عودها لقطرة ماء ترويها كان جو الخريف بارد ومُحمّلاً بمزن الكآبة
والدموع والأحزان ولا يبشر بخير لقد مرّ أسبوع آخر ولم يتذكره أحد نسيه الجميع لإنشغالهم
بعالم (( الأنا )) ولم يشتق له إلا غرفته ومذياعه ومرت أيام الأسبوع والحزن يفتك بقلب الشيخ
وجسده الضعيف ودمعه لم يجف كما رفض الزاد والشراب وفي أحد أيام الخريف مر الطبيب
عليه كعادته ليطمئن على صحته ونفسيته فوجده جثة هامدة محتضناً وسادته وبصره شاخص للأعلى
وكأنه يدعو ربه والدمع ما زالت بقاياه ندية على وجنتيه ولحيته حزن الطبيب على هذا الشيخ
الذي نسيه أبناؤه وحارَ ماذا يفعل بجثته! لم يسأل عنه أحد ولم يأت أحد لتسلم جثته لغسلها
ودفنها بل ولم يحضر أي منهم للدعاء والترحم والصلاة عليه .
*مما استحسنته من مقال قديم لـ إيمان عبدالله العسيري
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
بارك الله فيك على هذا الموضوع الجيد الرائع والذي بحق يهم كل واحد لديه ذره من الايمان قال تعالى (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا)وكما تدين تدان( بروا ابائكم تبركم ابنائكم) وصاحبهما في الدنيا معروفا وحقوقهم علينا كثيره لايعرفها الا من رزقه الله باولاد وهذه دعوه كريمه من عميد القوم يامن مازلت في عنادك وعقوقك اما انى لك ان تتوب قبل ماتندم اما انى لك ان تتنازل وتخضع قليلا لوالديك فالزمن يدور والايام ماضيه