قال الله تعالى :ï´؟ الْحَمْدُ لله الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ï´¾(الأنعام:1) ، وقال سبحانه :ï´؟ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ï´¾(الأنبياء:16) ، فأتى بلفظ ( السماء ) مجموعًا تارة ، ومفردًا تارة أخرى ، بخلاف لفظ ( الأرض ) ؛ إذ أتى به مفردًا في الموضعين ، وهو كذلك في القرآن كله .. فما السر في جمع السموات وإفرادها ؟ وما النكتة في إفراد الأرض ؟
والجواب عن ذلك من وجهين : أحدهما لفظيٌّ ، والآخر معنويٌّ .
أولاً- فأما الوجه اللفظيُّ فإن لفظ ( السماء ) هو اسم جنس يطلق على المقابل للأرض ، والأصل فيه التأنيث ؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :ï´؟ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ï´¾(الفرقان:25) ، ï´؟ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ï´¾(الانشقاق:1) ، وقد يذكًّر؛ كقوله تعالى: ï´؟ السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ï´¾(المزمل:18) ، ويستعمل للواحد ، كما في الآيات السابقة ، وللجمع ، كما في قوله تعالى: ï´؟ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ï´¾(البقرة:29) .
ويطلق لفظ ( السماء ) ، ويراد به العلوُّ ، قال بعضهم :« كل سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء ، وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض ؛ إلا السماء العليا فإنها سماء بلا أرض » . أما لفظ ( الأرض ) ، وإن كان اسم جنس مؤنث يطلق على الجرم المقابل للسماء ، فإنه في الأصل مصدر لقولك : أرَضَ ، على وزن : فعَل ؛ كضَرْب ، ويُعبَّر به عن أسفل الشيء ، كما يعبَّر بالسماء عن أعلى الشيء .
ويماثل الأرض في لفظها : السَّفْل والتحْت ، وهما لا يثنَّيان ولا يجمعان ، ويأتي في مقابلهما : الفوق والعلو ، وهما كذلك ، لا يثنَّيان ولا يجمعان ؛ لأن المصادر المطلقة من أي قيد لا تثنى ولا تجمع ، خلافًا للأسماء ؛ ولهذا جمع لفظ السماء ، ولم يجمع لفظ الأرض . أما قولهم : الأراضي ، والأرَضون ، فهما خلاف القياس . يضاف إلى ذلك : أنه ليس فيهما من الفصاحة والعذوبة ما في لفظ السموات ، بدليل أنك تجد السمع ينبو عنهما بقدر ما يستحسن لفظ السموات ؛ فلفظ السموات يلج في السمع بغير استئذان ، لنصاعته وعذوبته . أما لفظ الأراضي ، أو الأرضون ، فلا يأذن له السمع إلا على كره . ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه ، لثقله وخفة المفرد كلفظ الأرض ، وجمع لم يقع في القرآن مفرده ، لثقله وخفة الجمع كلفظ الألباب .
ثانيًا- وأما الوجه المعنوي فإن الكلام متى اعتمِد به على السماء المحسوسة التي هي السقف الرفيع ، وقُصِد به إلى ذاتها ، دون معنى الوصف ، صحَّ جمعها ، ومتى اعتمِد الكلام على معنى الوصف – أي : معنى العلو والرفعة - جيء بلفظها مفردًا .. أما الأرض فأكثر ما تجيء مقصودًا بها معنى التحت والسفل – أي : معنى الوصف - دون أن يقصَد ذواتها وأعدادها ؛ ولهذا جاء لفظها في القرآن مفردًا .
فإذا جاءت الأرض مقصودًا بها الذات والعدد ، جيء بلفظ يدل على التعدد ؛ كما في قوله تعالى :ï´؟ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ï´¾(الطلاق:12) . وقد قيل في تفسير هذه الآية : إن الأرض واحدة ، وأن المماثلة بينها ، وبين السموات في التركيب والخصائص . وقيل : في الإبداع والإحكام . والصحيح الذي عليه الجمهور أنها سبع ، وأن المماثلة بينها ، وبين السموات في التعدد ، وفي كونها طباقًا بعضها فوق بعض . هذا ما نصَّت عليه الآية الكريمة ، وأيدته الأحاديث الشريفة ، وأكده العلم الحديث .
تأمل قول النبي عليه الصلاة والسلام :« من ظلم شبر أرض طُوِّقه من سبع أرَضين » ، تجد أن المقصود به ذات الأرضين وأنفسها على التفصيل والتعيين لآحادها ، دون الوصف لها بتحت أو سفل ، في مقابلة فوق أو علو ؛ ولهذا جيء بلفظها مجموعًا ، كما جيء بلفظ السماء مجموعًا للعلة نفسها .. هذا فرق .
وفرق آخر : وهو أن الأرض لا نسبة لها إلى السموات وسعتها ؛ بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء ؛ فهي - وإن تعددت وتكبَّرت - فإنها بالنسبة إلى السماء كالواحد القليل ؛ ولهذا اختير لها اسم الجنس .
وفرق ثالث : وهو أن الأرض دار الدنيا التي هي بالإضافة إلى الآخرة ، كما يدخل الإنسان أصبعه في اليمِّ ، فما تعلق بها هو مثال الدنيا من الآخرة ، والله تعالى لم يذكر الدنيا إلا مقللاً لشأنها ، وأما السموات فليست من الدنيا - على أحد القولين فيها - وإنها مقرُّ ملائكة الرب تعالى ، ومحل دار جزائه ، ومهبط وحيه ؛ ولهذا ناسب التعبير عنها بلفظ الجمع ؛ لأن المقصود ذواتها ، لا مجرد العلو والفوق . أما إذا أريد الوصف الشامل للسموات - وهو معنى العلو والفوق - أفرد لفظها بحسب ما يتصل به من الكلام والسياق .. هذه الفروق ذكرها ابن قيم الجوزية في كتابه البديع ( بدائع الفوائد ) .
ثالثًا- تأمل بعد ذلك كيف جاء لفظ السماء مجموعًا في قوله تعالى :ï´؟ وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ï´¾(الأنعام:3) ، والسر في ذلك يرجع إلى أن المراد من الآية : هو الله المعبود في كل واحدة من السموات ؛ ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه والمعبود ، فذكر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس الواحد .
وتأمل كيف جاء لفظ السماء مجموعًا في قوله تعالى :ï´؟ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ï´¾(الإسراء:44) ، والسر في ذلك يرجع إلى أن المراد من الآية : الإخبار بأنها تسبح له سبحانه ، بذواتها وأنفسها ، على اختلاف عددها ، وأكد هذا المعنى بوصفها بالعدد ، ولم يقتصر على لفظ الجمع . وكان إفراد الأرض مع جمع السموات للإشارة إلى وحدتها في الجملة بالنسبة لعالم السموات ، وإن كانت الأرض طبقات ، وللإشارة إلى أن ما في الأرض ليس إلا مظهرًا من حركات السماء ، وأن الأرض شيء صغير بجوار السموات وما فيها .
ثم تأمل كيف جاء لفظ السماء مفردًا في قوله تعالى:ï´؟ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ï´¾(الملك:16-17) ، والسر في ذلك يرجع إلى أن المراد من الآية : الوصف الشامل ، والفوق المطلق للسماء ، ولم يُرَد سماء معينة مخصوصة .
أما قوله تعالى:ï´؟ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ï´¾(الذاريات:22) ، فجاء لفظ السماء فيه مفردًا ؛ لأن الرزق هو المطر ، والذي وعدنا به هو الجنة ، وكلاهما في هذه الجهة ، لا في كل واحدة من السموات ، فكان لفظ الإفراد أليق بالمقام , وكذلك قوله تعالى :ï´؟ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ï´¾(البقرة:22) جاء فيه لفظ السماء مفردًا ؛ لأن الماء ينزل من هذه الجهة التي هي العلوُّ .
وأما قوله تعالى: ï´؟ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ï´¾(الذاريات:23) ، فجاء فيه لفظ السماء والأرض مفردين إرادة لهذين الجنسين . أي : رب كل ما علا ، وكل ما سفل . فلما كان المراد عموم ربوبيته تعالى ، أتى بالاسم الشامل لكل ما يسمَّى سماء ، ولكل ما يسمَّى أرضًا ، وهو أمر حقيقي لا يتبدل ولا يتغير ، وإن تبدلت عين السماء والأرض .
بقي أن تعلم أن لفظ ( الأرض ) إذا ذكر مع لفظ ( السماء ) بصيغة المفرد ، كان المراد منه المفرد ؛ كما في قوله تعالى :ï´؟ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ï´¾(الذاريات:23) ، وقوله :ï´؟ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ï´¾(يونس:31) ، وإذا ذكر مع لفظ ( السموات ) بصيغة الجمع ، كان المراد منه الجمع ؛ كما في قوله تعالى :ï´؟أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ï´¾(الأنبياء:30) ؛ ولهذا قال الشيخ ابن عطية :« الأرض هنا اسم الجنس ، فهي جمع » .
ومما جاء فيه لفظ الأرض مع لفظ السموات مرادًا به الجمع ، ومع لفظ السماء مرادًا به الإفراد قوله تعالى :ï´؟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾ (البقرة:164) .
فتأمل هذه الأسرار المعجزة التي ينطق بها البيان الأعلى في كل لفظ من ألفاظه ، مما يشهد أنه تنزيل من حكيم حميد .. والحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان !
منقول جزى الله كاتبه خيرا
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك