ومن كمال الإيمان الاستئذان عند الرغبة في ترك مجلسه لحاجة ضرورية:
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 62].
من التأدب والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم النهيُ عن مناداته باسمه، والحرص على تبجيله وخفض الصوت عنده صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ﴾ [النور: 63]، ومخالفة أمره من علامات النفاق: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، "قوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ بهذه الآية احتجَّ الفقهاء على أن الأمر على الوجوب، ووجْهُها أن الله تبارك وتعالى قد حذَّر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: ﴿ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره، والفتنة هنا القتل؛ قاله ابن عباس"؛ [تفسير القرطبي]، وقيل: الفتنة: الكفر.
وقد بشَّرت الآيات من يتبع النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويتحاكم إليه بأربع عطايا وثمرات:
الفلاح، والهدایة، والرحمة، والفوز.
ما العلاقة بين أحكام الأسرة والعفة، وبين الكفر والنفاق؟
لما كان الكفار والمنافقون هم المروِّجين للزنا والفواحش ابتداءً، وهذا واقع لا ينكره أحدٌ؛ فأينما وُجد الكفار والمنافقون تجد الانفلات الأخلاقي وانتشار الزنا واللواط، بل ويحرصون على دعوة الناس إليه، ويحبون هدم الأسرة، وتقويض بنيانها عياذًا بالله.
وهل ابتدأ الطعنَ في السيدة عائشة رضي الله عنها إلا المنافقون أصحاب الإفك والبهتان، وعلى رأسهم عبدالله بن أُبيِّ بن سلول المنافق، وفي ذلك نزلت عشر آيات؛ فيها وعيد شديد لهؤلاء الخائضين في أعراض العفيفات اللاتي لا يخطر ببالهن أصلًا تلك القاذوراُت من الفواحش والمنكرات؛ كما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ الْغَافِلَاتِ ﴾؛ اللاتي لم يخطر ذلك بقلوبهن، فكيف يفعلن شيئًا لم يخطر بقلوبهن؟!
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]:
من الذي يمسك الطيرَ في جوِّ السماء؟ إنه الله الذي يمسك السمواتِ والأرض أن تزولا، إنه الله الذي له ملك السموات والأرض، ويا لها من عبرة وبرهان يدل على عظمته ووحدانيته، وأن الكون كله في قبضته يسبح بحمده!
في نزول المطر عظة وعبرة: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 43]؛ "أي: ألم تشاهد ببصرك عظيم قدرة الله، وكيف ﴿ يُزْجِي ﴾؛ أي: يسوق ﴿ سَحَابًا ﴾: قطعًا متفرقة، ﴿ ثُمَّ يُؤَلِّفُ ﴾ بين تلك القطع، فيجعله سحابًا متراكمًا مثل الجبال، ﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ ﴾؛ أي: الوابل والمطر يخرج من خلال السحاب، نقطًا متفرقة؛ ليحصل بها الانتفاع من دون ضرر، فتمتلئ بذلك الغُدران، وتتدفق الخلجان، وتسيل الأودية، وتنبت الأرض من كل زوج كريم، وتارة يُنزل الله من ذلك السحاب بَرَدًا يتلف ما يصيبه: ﴿ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ﴾، بحسب ما اقتضاه حُكمه القدري، وحكمته التي يُحمد عليها، ﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ ﴾؛ أي: يكاد ضوء برق ذلك السحاب من شدته ﴿ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾، أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين، وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر، كاملَ القدرة، نافذ المشيئة، واسع الرحمة؟"؛ [تفسير الشيخ السعدي رحمه الله].
وفي تصريف الليل والنهار عبرة وبرهان على أنه سبحانه لا يغفل ولا ينام: ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]؛ "﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ من حرٍّ إلى برد، ومن برد إلى حر، من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل، ويُديل الأيام بين عباده، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾؛ أي: لذوي البصائر، والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها، كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة الحسية، فالبصير ينظر إلى هذه المخلوقات نظرَ اعتبارٍ وتفكر وتدبر لِما أُريد بها ومنها، والمعرض الجاهل نظرُهُ إليها نظر غفلة، بمنزلة نظر البهائم"؛ [تفسير الشيخ السعدي].
وفي طلاقة القدرة أعظمُ عبرةٍ؛ فربُّنا يخلق ما يشاء، كيف يشاء، متى يشاء، والمخلوقات كلها من نطفة، لكن تختلف في أشكالها وألوانها وقدراتها:
تأمل وتفكر في تلك الآيات:
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [النور: 45]، ثم أتبع تلك الآيات الكونية بالآيات القرآنية الشرعية: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النور: 46]؛ ليدُلَّك بالمشاهَد على صدق الوحي غير المشاهَد، فيا من شاهدت عظمة وإتقان هذا الكون، اعلم أن خالق هذا الكونِ هو مصدر هذا الشرع، وكلاهما متقَن محكَم؛ ﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [الملك: 3]؛ وقال تعالى: ﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 1]؛ قال الحسن البصري: "ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت".
وقد قال الإمام الهروي: "التذكر فوق التفكر؛ لأن التفكر طلب، والتذكر وجود"؛ يريد: أن التفكر التماس الغايات من مباديها، كما قال: "التفكر تلمس البصيرة لاستدراك البُغية".
• بنُــور تيسير الزواج، وحسن اختيار الزوجين، والتحذير من تزويج المرأة نفسَها بغير إذن وليِّها: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾ [النور: 32].
هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح؛ أي: زوِّجوا من لا زوج له منكم، فإنه طريق التعفف، والخطابُ للأولياء، وقيل: للأزواج، والصحيح الأول؛ إذ لو أراد الأزواج لقال: (وانكحوا) بغير همز، وكانت الألف للوصل، وفي هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تُنكح نفسَها بغير ولي؛ وهو قول أكثر العلماء؛ [تفسير القرطبي].
وقد وعد الله تعالى من يطلب الحلال والعفاف بالغِنى: ﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32]، كما بشَّر بذلك الغِنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف))؛ [قال أبو عيسى: هذا حديث حسن].
ومن وسائل الاستعفاف الصــيام؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))؛ [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
هذا تحذير لمن ينشر مقاطع وصور الفجور على مواقع التواصل المختلفة، بغيةَ كسب المال، ولن ينفعه المال شيئًا عندما يموت، ولا زال عداد سيئاته يعمل: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [النحل: 25]، وكأن الإمام الطبريَّ شيخ المفسرين يرى واقع المسلمين في هذا الزمان فيقول: "يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، لا تسلكوا سبيل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره، بإشاعتكم الفاحشة في الذين آمنوا وإذاعتكموها فيهم وروايتكم ذلك عمن جاء به، فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، وهي الزنا، والمنكر من القول"؛ [تفسير الإمام الطبري].
ومن عجائب سورة النـور أنها تعلِّمنا أن نحفظ لأهل الفضل فضلَهم، وإن زلَّت قدمهم زلة تُغفر لهم، على عكس ما يحصل في هذا الزمان خاصةً مع سرعة نقل المعلومات وإشاعتها، فتجد عالمًا صاحب تاريخٍ دعويٍّ وعلمي وإيماني، إن زلَّ زلة يُمسح تاريخه كلُّه، ويُحاكمه كل ناعق وجاهل ويُرمى بالنفاق عياذًا بالله.
فمن عجائب سورة النـور أنها تعلمنا أن نحفظ لأهل الفضل فضلهم، وإن زلت قدمهم زلة تُغفر لهم، وخاصة أن الآية عامة في الأمة إلى قيام الساعة كما يرى أكثر المفسرين.
أين هذا؟
تأمل قوله تعالى مخاطبًا أبا بكر الصديق رضي الله عنه في شأن مِسطَح بن أُثاثة رضي الله عنه: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].
قال ابن زيد في قوله: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى ﴾، قال: "كان مِسْطَح ذا قرابة، ﴿ وَالْمَسَاكِينَ ﴾، قال: كان مسكينًا، ﴿ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّه ﴾ كان بدْريًّا".
قال عبدالله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، فقال أبو بكر: والله إني لأحبُّ أن يغفر الله لي؛ فرجَعَ إلى مسطح النفقةَ التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدًا.
﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾؛ أي: عما تقدَّم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم؛ [تفسير ابن كثير].
لقد فرَّقت الآيات بين من يحارب دين الله وبين من ينصر دين الله؛ فقال تعالى فيمن يحارب الدين: ﴿ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11]، أمـا من كان مؤمنًا وشهد المشاهد كلَّها مع رسول الله، فقد حثَّ الله على العفو عنه خاصة أنه سارع إلى التوبة والندم، فكان العفو الإلهي وتبعه العفو البشري رجاء أن يعفو الله عن الجميع، وهذه الواقعة لها مثيل؛ ألَا وهو قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ الذي قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرتُ لكم))؛ [البخاري]، فدمعت عينا عمر.
يمحوها نور الاستعانة بالله تعالى والاستعاذة به سبحانه من الشيطان الرجيم، ولا أَقُولُ لَكُمْ إلَّا كما كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والهرم، والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يُستجاب لها))؛ [رواه زيد بن أرقم، والحديث في صحيح مسلم].