قد ينشدُ المرء تغيير نفسه وتنمية شخصيته، فيقرعُ أبواب التنمية الذاتية ولا يمل، ويزيدُ من جرعات التثقُّف في أنواع المعارف بِنَهمٍ، وقد يلجأ للطب النفسي ولا حرج، ويبذل في ذلك من وقته وجهده غير متبرِّمٍ. فإذا أوعزتَ إليه بأن دواءه بين يديه، وأن طريق التغيير الأعظم في مصحفِه، استثقلَ وكأنك تطالبه بأن يأتيَ بالمعجزات أو بما لم تستطعه الأوائل! ومن حصيلة تجارِب لي ولغيري أقول: من أراد أن يتغيَّرَ -سلوكًا أو خُلقًا أو دينًا- فليتدبَّرْ كتاب الله، وليربِّ نفسَه بما تربَّى به الصالحون من قبلُ، ومن جهلَ فليتعلَّم!
إن البعدَ عن فهم القرآن وتدبُّر آياته أورثَ بعدًا في التأثير والتطبيق، وبات الكثير يَتْلون كتاب الله ولا يفهمونه، ويسمعون آياته ولا يتأثرون.
ولهذا البعدِ أسباب كثيرة، أهمها: عدم استيعاب الخطاب القرآني الموجَّه إلينا أفرادًا وجماعات، أو إسقاط آيات التقريع والتوبيخ والإنذار والتحذير على كل الناس إلا أنفسَنا، وقد ذكر الشيخ صلاح الخالدي في ذلك كلامًا واقعيًّا ملموسًا؛ إذ قال: "إن مما يؤسف له في صلة المسلمين المعاصرين بإسلامهم وقرآنهم وتعاملهم مع ربهم، أن الواحد منهم لا يشعر أنه هو المقصود أساسًا بالأمر أو التوجيه، وأنه المطالب به، وأن شخصه بذاته معنيٌّ به بخاصة... ولكنه يشعر أن الخطاب لفلان أو علان... إنه يلقي المسؤولية عنه، ويلغي خصوصيته ليوجهها إلى غيره، إنه يوزِّع الواجبات على غيره، بعد أن يزحلقها عنه؛ ولهذا لم يتفاعل معها، ولم يسعَ لكى يلتزم هو بها، وإذا قرأ آياتِ القصص قصَرها على السابقين، وإذا قرأ آيات الخطاب والتكليف للرسول عليه الصلاة والسلام خصَّه هو بها، وإذا قرأ حادثة زمن الصحابة فهي لهم فقط... وإذا سمع "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فهي تخاطب الصحابة أو مؤمنين في العوالم الأخرى"[1].
وكذلك يقول الدكتور فريد الأنصاري في هذا المعنى: "إن المشكلة هي أننا عندما نقرأ القرآن نربط الوحيَ فيه بذلك الماضي الذي كان! بينما الوحي نورٌ حاضر، وروح حي يتدفق الآن في كل آيات القرآن، وينبع من تحت كل كلماته شلالاتٌ من كوثر ثجاج"[2].
هذا القصور في الفهم أحدَث خللًا في تعاملنا مع القرآن، وأبعَدَنا عن تدبُّره، حتى ظنَّ البعض أن التدبر -كالتفسير- مختص بالعلماء وذوي العلم، دون إدراك للفرق بين التدبر والتفسير وماهية العلاقة بينهما، وتوضيحًا لذلك يقول الشيخ عبدالمحسن المطيري: "فالتفسير هو الكشف عن معاني القرآن، ولا يلزم منه عميق تفكير ولا نظر في العواقب ولا تأثر، والتفسير أساس والتدبر ثمرة، أو التفسير وسيلة والتدبر غاية؛ فغاية التفسير فهم المعنى، وغاية التدبر الاهتداء"[3].
تأمَّلْ في غاية كل منهما، تَعِ الفرق؛ فالتفسير لتجلية المعنى، أما التدبُّر فلغاية الاهتداء تطبيقًا وعملًا. وفي تحرير معنى التدبر عند المفسرين بيَّن الدكتور فهد مبارك الوهبي العلاقة بين التدبر والتفسير في النقاط الآتية:
♦ التفسير في عمل المفسرين يشمل التدبر، فكُتب التفسير مشتملة على الكثير من تدبر القرآن والحث عليه، وذكر ثمرات لتدبر آيات من القرآن الكريم.
♦ التدبر من أكبر مقاصد التفسير؛ وذلك لأن كثيرًا من آيات القرآن الكريم هي آيات عظة وعبرة، وبيان تلك العبر والعظات هي من التفسير قطعًا؛ لكونها بيان المراد من هذه الآيات.
♦ أن المقصود الأصليَّ للتفسير هو بيان معاني كلام الله تعالى، ومقصود التدبر هو الاتعاظ والاعتبار.
♦ التدبر لا يكون إلا بعد معرفة التفسير الصحيح للآية.
وخلاصة القول في العلاقة بين التفسير والتدبُّر: أن التفسير له علماء وأهل علم يختصون به، أما التدبر فمطلوب من كلِّ أحد؛ شريطة ضبط التدبر برجوع المتدبِّر إلى التفسير أولًا، وفهم معنى الآيات فهمًا صحيحًا، وألا يتَّكل المتدبِّر على فهمه الشخصي للآيات، وإسقاطها على الواقع وَفق ما يعرف دون الرجوع إلى التفاسير؛ حتى لا يقع في معارضة المعنى أو الخوض في آيات الله بغير علم، فالرجوع إلى التفسير خطوة لازمة وسابقة للتدبر!
وهذا يؤكد أهمية العودة إلى التفاسير قبل صياغة التدبُّرات أو مدارسة الآيات مع آخرين، ولا بد من عرضها على ذوي العلم قبل نشرها، ولا ينبغي الانخراط في مناقشات حول الآي القرآني -من باب التدبر- دون سابق علم فيها، واطِّلاع على تفسيرها! كما لا ينبغي حصر التدبر في استنباط اللطائف أو التدبرات القرآنية، وهذه إشكالية بارزة في عصرنا؛ إذ انشغل البعض بالجانب النظري عن التطبيقي، وابتعدوا عن الجانب العملي الذي هو ثمرة التدبر وغايته! فصياغة التدبرات ليست الغاية، ولكن حسبك أن يثمر عن تدبرك عملٌ صالح، أو أثر في تزكية القلب وتحسين الخُلق.
هذا، والله أعلم.
[1] - كتاب "مفاتيح للتعامل مع القرآن"، ص132.
[2] - كتاب "هذه رسالات القرآن، فمن يتلقاها؟" ص42-43.
[3] - كتاب "مبادئ تدبر القرآن" ص20.
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك