المعنى:
من المسائل المستجدة في عصرنا والتي أصبحت واقعًا ملموسًا لا يمكن الاستغناء عنه، هي وسائل الاتصال الحديثة التي ظهرت في وقتنا والتي أجاد بها العقلُ البشري وقرّبت المسافات الطويلة بين الناس وجعلت العالم صغيرًا وذلك من خلال سُرعة التواصل بين الناس، ومن هذه الخدمات التي تُقدمها هذهِ الأجهزة هي المُراسلات وإجراء العقود والمعاملات بين الناس، ومن هذه المعاملات عقود النكاح عن طريق هذه الآلات، فما مدى صحة هذا النوع من العقود وآراء العلماء في ذلك وخاصة في هذا العصر الذي تغيرت فيه عادات وتقاليد وذمم الناس؟
الأصل في هذه المستجدة:
أصل هذه المسألة هو اختلاف الفُقهاء في الشهادة على النِكاح من حيث: هل هي شرطٌ في النكاح أم غير شرط؟ واتحاد المجلس، وهل المُراد منهُ: أن يكون المتعاقدان في مكان واحد، أو المراد باتحاد المجلس: اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون المتعاقدان مُشتغلين فيه بالتعاقُد؟ فالمقصود من مجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مُقبلين على التفاوض في العقد(1)، وهذا تأكيد ما قاله الفُقهاء: "إن المجلس يجمع المتفرقات"(2)، وسأتناول أقوال الفقهاء الأجلاء باختصار في تقرير الاستدلال على أصل هذه المستجدة.
اتفق أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، على أن الشهادة من شرط النكاح، واختلفوا: هل هي شرط تمام يؤمر به عند الدخول، أو شرط صحة يؤمر به عند العقد؟ واتفقوا على أنهُ لا يجوز نكاح السر(3)، وذهب الأحناف إلى اعتبار حضور الشاهدين من الشروط الخاصة التي لا ينعقد النكاح بدونه، بخلاف بقية الأحكام؛ فإن الشهادة فيها للظهور عند الحاكم لا للانعقاد(4)، والأصل في هذا ما روي عن الإمام علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا نكاح إلا بولي، ولا نكاح إلا بشهود))(1).
وعن الإمام احمد بن حنبل أن الشهادة ليست بشرط، بل تسُّن فيه -كعقد غيره- ويصح بدونها، وهو قول ابن عمر وابن الزبير والحسن بن علي -رضي الله عنهم- لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعتق صفية وتزوجها بغير شهود، ولأنه عقد معاوضة، فلم تشترط الشهادة فيه كالبيع(2).
لذلك صَرح فُقهاء الحنفية بجواز عقد النكاح بواسطة المراسلة والمكاتبة بشرط الإشهاد عند القبول؛ لأنه لا نكاح إلا بشهود، فقد جاء في كتاب "رد المحتار على الدر المختار": (كما ينعقد النكاح بالكتابة ينعقد البيع وسائر التصرفات بالكتابة أيضًا)(3).
ومثل ذلك ما جاء في كتاب "بدائع الصنائع" عن أئمة الحنفية أيضًا(4)، ويُعتبر من قبيل المُراسلة والمكاتبة في عصرنا الحاضر، التلغراف (البرقية) والتلكس، ويشترط لصحة عقد النكاح بهاتين الوسيلتين ما يشترط في التعاقد بالمراسلة والمكاتبة من الإشهاد على العقد؛ أما إجراء عقد النكاح بواسطة الهاتف فتتوقف صحتُهُ على إحضار الشهود عند المخاطبة وسماعهم كلام العاقدين، فإذا تحقق ذلك جاز، وإلا فلا(5).
أما الطلاق عن طريق الهاتف أو الكمبيوتر (الانترنت) فإنه يقع؛ لأنه لا يتوقف على شروط العقد من رِضا المُتعاقدين أو إيجاب وقبول أو شهود، فهو يقع بِمُجرد تلفظ الزوج به ولا ينتظر رِضا الزوجة في ذلك، لكن يجب على الزوجة أن تتأكد من أن الذي خاطبها هو زوجها وليس هُناك تلاعب أو تزوير؛ لأن هذا الطلاق يترتب عليه أحكام مثل العدّة(1)، أما الكتابة بالطلاق للزوجة عن طريق هذه الأجهزة ففيه خلاف بين الفقهاء:
1. يقول الإمام النووي -رحمه الله-: "قال أصحابُنا كُل تصرف يستقل به الشخص كالطلاق والعتاق والإبراء ينعقد مع النية بلا خلاف، كما ينعقد بالصريح"(2)، وجهُ الدلالة: أن الكتابة لفظ كناية يقع بِمُجرد النية إذا كتب لها كالصريح وإذا لم ينوِ الطلاق لم يقع.
2. وملخص مذهب الحنابلة كما ذكرهُ ابن القيم -رحمه الله-: "وإن كتب طلاق امرأتهُ ونوى طلاقها وقع، وإن نوى تجويد خطه أو غم أهله لم يقع"(3).
3. وملخص مذهب المالكية أن الرجُل إذا كَتب طلاق امرأته لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون كتبهُ مُجمِعًا على الطلاق، والثاني: أن يكون كتبهُ على أن يستخبر فيه؛ فإن رأى أن ينفذه أنفذه، وإن رأى ألا ينفذه لم ينفذه، والثالث: ألا تكون له نية؛ فأما إذا كتبه مُجمِعًا على الطلاق، أو لم تكن له نية، فقد وجب عليه الطلاق، طاهرًا كانت أو حائضًا، فإن كانت حائضًا أُجبر على رجعتها، وأما إذا كتبه على أن يستخبره ويرى رأيه في إنفاذه، فذلك له ما لم يخرج الكتاب من يده(4).
الحكم:
1. جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي 52 (2/6) بشأن حُكم إجراء العقود عن طريق الآلات الحديثة، من موضوع المعاملات المالية -العقود الالكترونية- من خلال الحُكم على إجراء العقود الالكترونية بوسائل الاتصال الحديثة فقد نصت المادة الرابعة منه على ما يأتي:
• إن القواعد السابقة -أي القواعد التي تجوّز إجراء عقود البيع والشراء عن طريق أجهزة الاتصال الحديثة- لا تشمل عقد النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال(1).
2. فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بتاريخ 20 / 3 / 1396هـ:
السؤال: إذا توفرت أركان النكاح وشروطه إلا أن الولي والزوج كُل منهما في بلد، فهل يَجوز العقد تلفونيًّا أم لا؟
الجواب: نظرًا إلى ما كثُرَ في هذهِ الأيام من التغرير والخِداع والمهارة في تقليد بعض الناس بعضًا في الكلام وإحكام مُحاكاة غيرهِم في الأصوات حتى إن أحدهُم يقوى على أن يمثل جماعة من الذكور والإناث صِغارًا وكبارًا ويحاكيهم في أصواتِهم وفي لُغاتهم المختلفة محاكاة تلقى في نفس السامع أن المتكلمين أشخاص وما هو إلا شخص واحد، ونظرًا إلى عناية الشريعة الإسلامية بحفظ الفروج والأعراض والاحتياط لذلك أكثر من الاحتياط لغيره من عقود المعاملات؛ رأت اللجنة أنه ينبغي ألا يُعتمد في عقود النكاح في الإيجاب والقبول والتوكيل على المحادثات التليفونية تحقيقًا لمقاصد الشريعة ومزيد عناية في حِفظ الفروج والأعراض حتى لا يعبث أهل الأهواء، ومن تحدثهم أنفسهم بالغش والخِداع(2).
3. ومِن الفُقهاء المعاصرين الذين أجازوا إجراء عقد الزواج مُشافهةً عن طريق وسائل الاتصال الحديثة المباشرة -كالهاتف والحاسوب الآلي عن طريق الانترنت- هُم مصطفى الزرقا، ووهبه الزحيلي، وإبراهيم فاضل الدبو، ومحمد عقلة، وبدران أبو العينين، وهؤلاء جميعًا أوجبوا الإشهاد على العقد وحضور المحادثة الهاتفية التي يُجرى فيها العقد عن طريق يمُكّن الشهود من استماع صَوت العاقد الآخر(3).
ولكن هذا الجواز الذي صدر من بعض الفُقهاء المعاصرين لا بد لهُ من ضوابط عند استخدام هذهِ الأجهزة وخاصةً الانترنت، ومن هذه الضوابط:
1. القُدّرة والإمكانية على استخدام الانترنت بالشكل السليم والصحيح، لتجنُب الأخطاء عند إجراء العقد.
2. لا بُدَّ لمِن أرادَ إجراء العقد عن طريق الانترنت أن يكون له بَريد الكتروني خاص به لتكون المُراسلة عن طريقه.
3. في حال إرسال إيجاب بالزواج لابُدَّ أن يكون التعبير عن المضمون دالًا بوضوح على الإيجاب بالزواج؛ حتى يتمكن المُرسَل إليه من الوقوف على مضمون الرسالة وفهم المراد منها.
4. مُراعاة وجود الشهود عند قراءة الرسالة لإصدار القبول، ولابُدَّ من قراءة مضمون الرسالة والتلفُظ بالقبول لاستماع الشهود لها ليتمَّ التأكُد من عملية الإشهاد على العقد(1).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك