مَثل الذي ينسلخ من آيات الله جل جلاله
والمثل جاء في قول
الله تعالى: ﴿
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175، 176].
الفئة المستهدفة بالمثل: المشركون، نوع المثل: قياسي تشبيهي مفرد.
شـرح الكلمات[1]:
واتل عليهم: اقرأ عليهم.
فانسلخ منها: كفر بها وتركها وراء ظهره مبتعدًا عنها.
فأتبعه الشيطان: لحقه وأدركه.
من الغاوين: من الضالين غير المهتدين، الهالكين غير الناجين.
أخلد إلى الأرض: مال إلى الدنيا وركن إليها، وأصبح لا همَّ له إلا الدنيا.
يلهث: اللهث: التَّنفس الشَّديد مع إخراج اللسان من التعب والإعياء.
جاء في أسباب النزول للواحدي[2]: (قال ابن مسعود: نزلت في بلعم بن باعوراء، رجل من بني إسرائيل، وقال ابن عباس وغيره من المفسـرين: هو بلعم بن باعوراء، وقال الوالبي: هو رجل من مدينة الجبارين، يقال له: بلعم، وكان يعلم اسم
الله الأعظم، فلما نزل بهم موسى عليه السلام أتاه بنو عمه وقومه، وقالوا: إنَّ موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إنْ يظهر علينا يهلكنا، فادعُ
الله أن يردَّ عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت
الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه مما كان عليه، فذلك، قوله تعالى: "فانسلخَ منها")[3].
ولقد جاء في هذا المثل الصَّريح بعض الإشارات المهمة؛ منها:
1- إن ما جاء عن بلعم بن باعوراء إنما هو نبأ؛ قال تعالى: ﴿
نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: 175]، والنبأ يفيد تأكيد تحُّقق الخبر، فهو خبر محقق قد وقع، مثلما أنه سيقع لكل من
ينسلخ من
آيات الله جل
جلاله من البشر بعد أن تأتيه.
2- مثلُ الكلب لم يرد في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع، بمعنى آخر هو أنَّ
الله تعالى قد مثَّلَ الكافرين وأعمالهم، والمنافقين وكذبهم، واليهود وكيدهم ومكرهم بشتى أنواع الأمثال المختلفة، ولم يشبههم بالكلب إلا هنا، فالمثل هنا يشير بشكل تام الوضوح إلى المنسلخ من الإيمان بعد أن ذاقه، ومن العلم الرباني بعد أن عرَفه، ومن العبادة بعد أن مارسها، ومن
آيات الله بعد أن شاهدها بعينه، ووعاها قلبه وعاشها بحواسِّه.
3- الله جل
جلاله هو
الذي آتى بلعمًا العلمَ والآيات، وقد علَّمه اسمه الأعظم، والإتيان كما هو معروف في اللغة يكون من غير علم مسبق، أو من غير دعوة وطلب، فحين نقول: أتى فلان، بمعنى حضر من غير أن ندعوَه، لذلك فإن ربعي بن عامر رضي
الله عنه حين أراد رستم ومن معه الاشتراط عليه قبل معركة القادسية الشهيرة، قال لهم: (إِنِّي لَمْ آتِكُمْ، وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي)[4]، فمن يُؤتى من
الله تعالى خيرًا ومن غير مسألة، فذلك فضلٌ عظيم، ومنَّة كبيرة، وعطاء جزيل، فعليه صيانتها وأداء حقِّها، لا إنكارها وجحودها، ويزداد الأمر عندما يكون العطاء
آيات وليس آية واحدة.
3- الانسلاخ هو عملية انفصال تام لشيء عن شيء آخر، جاء في الصحاح للجوهري: (سلخ: سلخت جلد الشاة: أسلخها وأسلخها سلخًا، والمسلوخ: الشاة سُلِخ عنها جلدُها، وسلخت المرأة درعها: نزعته، ومسلاخ الحية: قشـرها الذى تنسلخ منه)[5].
في هذا المثل - استنادًا لهذا الفهم - إشارةٌ بيِّنة إلى أن من ينزع ثوب الدين والإيمان والإسلام عن نفسه نزعًا كاملًا لا رجعة فيه، كالحيَّة إذا سلخت جلدها، فكانت في وادٍ والجلد في واد آخر، (كما أنَّ في التعبير عن هذه الحالة بالانسلاخ دلالة على أن الاستجابة للآيات تجمِّل الإنسان، وتجعله في موضع الكرامة، والإعراض عنها يقبِّحه، كما يكون جميلًا بجلده الحسن، قبيحًا وهو مسلوخ، ومنظره تشمئز منه النفس)[6].
4- إنَّ الشيطان
الذي هو عدو الإنسان الأول لا يترك الإنسان عندما يوقعه في معصية، وإنْ كانت هذه المعصية توجب الكفر، بل يتابعه إمعانًا في تلك المعصية، وزيادة في مثيلاتها؛ قال تعالى: ﴿
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾ [الأعراف: 175]، قال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: (وقوله: "فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ"؛ أي: استحوذ عليه وغلبه على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه، ولهذا قال: ﴿
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الأعراف: 175]؛ أي: من الهالكين الحائرين البائرين)[7].
5- ما إنْ انسلخ المنسلخ من
آيات الله تعالى حتى أخلدَ إلى الأرض؛ لأن الإنسان يتكون من جزء أرضي وهو التراب ثم الطين؛ قال تعالى: ﴿
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12]، وجزء سماوي وهي نفخة الروح؛ قال تعالى: ﴿
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29]، فحين تخلَّى وانسلخ ذلك المرتد من عقيدته؛ أي: تخلى عن الجزء السماوي، فبقي الجزء الأرضي
الذي انجذب لشبيهه.
والإنسان يرفعه
الله جل
جلاله بالعلم والتقوى والعمل الصالح، فإن أبى فسيخلد إلى الأرض، والخلود يشير إلى طول الأمد؛ بمعنى إنْ حدث الانسلاخ فسيبقى المنسلخ مُلتصقًا بالأرض وما فيها من الملذات والشهوات، مبتعدًا عن السماء وما فيها من الإيمان والمغفرة والخير؛ قال الزَّجَّاج: ﴿
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ معناه: ولكنه سكن إلى الدنيا، يقال: أخْلدَ فلان إلى كذا وكذا، وخلد إلى كذا وكذا، وأخْلدَ أكْثرُ في اللغة، والمعنى أنه سكن إلى لذات الأرْض)[8].
6- أثبت القرآنُ الكريم حقيقة اتباع الهوى وذلك في قوله تعالى: ﴿
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43]، وفي قوله تعالى: ﴿
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23]، فالمنسلخ من
آيات الله تعالى سيتَّبع هواه، فيكون هوى نفسه معبودًا من دون
الله تعالى؛ جاء في شرح العقيدة الطحاوية: (قَالَ تَعَالَى: ﴿
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾؛ أَيْ: عَبَدَ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ)[9].
7- المنسلخ من
آيات الله جل
جلاله شُبِّه بالكلب، والكلب معروف عند العرب، فيه صفات إيجابية وأخرى سلبية، والصفة الإيجابية التي تكاد تنفرد في الكلب واشتَهر بها هي الوفاء، والكلب يختلف عن أشباهه في صنف الكلبيات، كالذئب والثعلب وغيرهم، بأنه يُدجَّن، فالذئب لا يُدجَّن ولا يستأمن، ولعل تلك الأعرابية تعبر عن ما جرى لها من غدر الذئب لغنيماتها، وهي التي جاءت به من البرية واعتنتْ به، واهتمَّت بشأنه، حتى كبُر، فقالت:
بَقرتَ شويهتي وفَجعتَ قلبي
وأنتَ لشَاتِنا وَلدًا رَبيبُ
غُذيتَ بِدُرِّها ورُبيتَ فينا
فَمن أنباكَ أنَّ أباكَ ذيبُ
إذا كانَ الطباعُ طباعُ سَوءٍ
فلا أدبٌ يُفيدُ ولا أديبُ
فحين
ينسلخ المرء من عقيدة الإيمان، فسيكون عندها كالكلب، فتطغى عليه عندئذ كل الصفات السلبية، فلا يبقى فيه شيء يُذكر من الصفات الإيجابية.
8- معنى اللهث وسببه: لهث الكلب المستمر وإخراج لسانه يعود إلى سببين: الأول: أن عملية التنفس عبر أنفه لا تكفي لانتقال الأوكسجين من الهواء إلى دمه عبر الرئتين؛ حيث إن رئتيه لا تنتفخان بالهواء بالشهيق لإتمام عملية التبادل الكامل بين أوكسجين الهواء الداخل وثاني أوكسيد الكاربون، لذلك فإنه يسحب كميات إضافية من فمه، فيُبقي فمه مفتوحًا، والثاني: أنه ليس لديه غدد عَرَقية إلا في أسفل قدميه، لذلك فإنه لا يحصل تبريد لجسمه، فإنَّ درجة حرارة جسمه تبقى مرتفعة دائمًا، فهو يخرج لسانه لتبريده عن طريق الهواء الجوي، ومن ثم يُبرد جسمه.
وبعد هذا فإنَّ المثل في الآية ذكر الكلب بأنه يلهث وهو في قوله تعالى: ﴿
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ [الأعراف: 176]، فهو يخرج لسانه على كل حال.
10- عند استعراض صفات الكلب السلبية التي تجعله نجسًا ومضرًّا، فإننا نجد أن أهمهما أنه مستودع للأمراض، فقد أبرزت الكشوفات والبحوث العلمية الحديثة حقيقة علمية مفادها أنَّ الكلب يتسبب في نقل عشرات الأمراض إلى الإنسان، ومنها داء الكلب أو السعار، ومرض الحويصلات المائية، ومرض دودة الكلب الشـريطية.
وختاما فالمُنسلخ من
آيات الله تعالى يتبنى أفكارًا خطيرة وعقيدة فاسدة، وهو يحاول أن يبرر عن طريقها انسلاخه عن
آيات الله تعالى بأساليب شتى.
[1] أيسـر التفاسير، أبو بكر الجزائري، ج2، ص 262.
[2] جاء في وفيات الأعيان لابن خلكان: (أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن مَتُّويَه الواحدي المتوي صاحب التفاسير المشهورة؛ كان أستاذ عصـره في النحو والتفسير، ورزق السعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها، وذكرها المدرسون في دروسهم؛ منها البسيط في تفسير القرآن الكريم، وكذلك "الوسيط"، وكذلك "الوجيز"، ومنه أخذ أبو حامد الغزالي أسماء كتبه الثلاثة، وله كتاب "أسباب النزول"، و"التحبير في شرح أسماء
الله تعالى الحسنى"، وشـرح ديوان أبي الطيب المتنبي شرحًا مستوفًى، وليس في شروحه مع كثرتها مثله، وكان الواحدي المذكور تلميذ الثعلبي صاحب التفسير، وعنه أخذ علم التفسير وأربى عليه، وتوفي عن مرض طويل في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة بمدينة نيسابور، رحمه
الله تعالى.
[3] أسباب النزول، الواحدي، ص 152.
[4] البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، ج7، ص39.
[5] الصحاح، إسماعيل بن الجوهري، ج2، ص445.
[6] تاريخ نزول القرآن، محمد رأفت سعيد، ص 221.
[7] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي، ج2، 324.
[8] معاني القرآن وإعرابه، أبو إسحاق الزجاج، ج2، ص391.
[9] شـرح العقيدة الطحاوية، صدر الدين الحنفي، ص204.
الألوكة