القصة هذه من بدايتها إلى نهايتها نبع ثرٌّ من المعاني التربوية القرآنية الرائعة . في كل كلمة منحى بديع ولفتة راقية . فهلم إليها من بدايتها :
- " وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقباً " إن لموسى عليه السلام هدفاً محدداً يسعى لتحقيقه ..
ا- يريد أن يلقى معلماً يتعلم منه صلاح أمره في دنياه وآخرته .
ب- في مكان محدد يلتقيان فيه .
ج- في وقت ينتظره المعلم فيه .
- وعلى التلميذ أن يسعى إلى العلم لا أن يسعى المعلم إليه فهذا أكرم للعلم والمعلم والمتعلم فالعلم إن جاء سهل المتناول زهد المتعلم فيه . وأعظم للمعلم في عين المتعلم أن يسعى الأخير إلى الأول ليعرف قدره وقدر ما يحمله ، فيتعلق بهما .
- ونرى الإصرار العجيب على لقاء المعلم والنهل من علمه في قوله : " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً " فهو مصمم على بذل الجهد ليصل إلى مبتغاه – لقاء الأستاذ في المكان المنشود - ولو امضى عمره يبحث عنه " أو امضي حقباً " والحقبة أربعون سنة كما قال العلماء ، فما بالك بذكر الجمع " حقباً " ؟! .إنه دليل على الهمة العالية والسعي الحثيث إلى العلم والعلماء . وما يزال العلم بخير مادام طالبوه يطلبونه في مجالسه ويوقرون حامليه . ألم يرد في الأثر :" نعم الأمراء على أبواب العلماء ، وبئس العلماء على أبواب الأمراء " ؟ ... وهذا نبي كريم موسى عليه السلام على جلال قدره وعلوّ مكانته يسعى إلى الرجل الصالح حين علم أن لديه علماً يُستفاد لم يحزْه موسى " وفوق كل ذي علم عليم " .
- مصاحبة الكبيرِ الصغيرَ فائدة لكليهما فالأول يشرف على تربيته ، ويعلمه الحياة ، ويصوب أخطاءه ، ويسدد خطاه . والثاني يخدمه ، ويعينه على قضاء حوائجه . وقد أفلح موسى في تربية الفتى " يوشع بن نون " عليه السلام إذ بعثه الله تعالى نبياً، فقاد مسيرة المؤمنين وحمل لواء الدعوة بعد أستاذه ، وفتح الله على يديه القدس الشريف .
- " فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ، فاتخذ سبيله في البحر سرباً " وكلمة " مجمع بينهما " حار فيه كثير من المفسرين فمنهم من جعله الأرض الشاسعة بين بحر قزوين وخليج فارس !، ومنهم من قال : إنه بين خليج الإسكندرون وبحر إيجة ! ومنهم من ذكر أنها الأرض بين بحر غزة وخليج العقبة ! وقد ظنوا بكلمة " البحرين " المياه المالحة ، فتاهوا في أقوالهم ... إنه ليس من الممكن أن يلتقي أحد بمن يريد على مساحات ضخمة شاسعة تبلغ آلاف الكيلومترات تضيع فيها الجيوش والأمم !! وهل من المعقول أن يُضْرَبَ موعدٌ لرجلين في صحراء سيناء الواسعة الشاسعة ، أو أن يشد موسى الرحال إلى إيران ، أو أسيا الوسطى وهو في فلسطين ؟! وقد غاب عن كثير منهم أن البحر يطلق على الماء المالح والماء الحلو في قوله تعالى : " وهو الذي مرج البحرين ، هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " والنهر يصب في البحر ، فهو مجمعهما . أي : في قطعة من الأرض لا تتجاوز عشرات الأمتار، قريبة من مقام موسى عليه السلام يقطعها إن جدّ السيرَ بساعات قليلة أو ببعض يوم . وسياق الحديث يدل على ذلك . وهل يجوز لموسى أن يدع قومه اليهود أياماً وشهوراً وهم على ما هم عليه من ضعف الإيمان وشوائب العقيدة ، ويلتقي رجلاً مدة ليست باليسيرة ، قد تطول أياماً وشهوراً أيضاً فيعود ليجدهم قد تاهوا في الضلالة وهو العالم بشؤونهم الحريص على هدايتهم ؟!
- الإنسان ضعيف على الرغم من جلده في كثير من أموره ، ولو كان من أولي العزم . وأول دليل على ذلك أنّ موسى أصر على لقاء الرجل ولو طوى الأرض في سبيل هذا الهدف . لكنه إذ شعر بالجوع بعد السير الطويل واجتياز مكان اللقاء دون أن ينتبها إليه قال لفتاه " آتنا غداءنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً " وكان غداؤُه السمكة المشوية التي تحركت بعد أن عادت إليها الروح بإذن الله تعالى حين استلقى نائماً على الصخرة التي كان من المفروض أن يلتقي صاحبه عليها وغابت في شقوقها عائدة إلى الماء بقدرة خالقها وبارئها الذي يعيد الخلق كما بدأه وقتما يشاء . والدليل الثاني أن النسيان ضعف يضيّع على الإنسان كثيراً مما خطط ودبّر . فقد نام موسى على الصخرة حين سرب الحوت إلى الماء ولم يكن الفتى نائماً فرأى بأم عينه الأمر الغريب ، ولم يشأ أن يوقظ نبيه الكريم احتراماً وتقديراً ولسوف يخبره حين يستيقظ .
- ولا بد أن نشير هنا إلى الأدب الذي ربّيَ عليه الصغير في التعامل مع الكبير، وإلى آفة النسيان التي ابتلي بها الإنسان للدلالة على ضعفه . فلما استيقظ موسى عليه السلام وسارا بحثاً عن الرجل الصالح نسي الفتى قصة السمكة على غرابتها وعجيب أمرها .
- ومن الأدب أيضاً مع الله تعالى أنْ نسَب الفتى نسيانه أمر السمكة إلى الشيطان ، واعتبر هذا النسيان عيباً. والعيب كله في الشيطان عدو الإنسان . مع أن الله تعالى كان أخبر نبيه موسى أنه سيلقى الرجل الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت . فهو أمر مخطَّط له كي يحدد المكان فلا يخطئه .
- والحقيقة أن موسى وفتاه نسيا المكان وسارا لأنهما لم يقولا " إن شاء الله " فيما عزما عليه ، فموسى أخبر فتاه عن عزمه على بلوغ مجمع البحرين دون أن يربط ذلك بمشيئة الله تعالى ، وكذلك فعل فتاه فدمجهما الله تعالى بذكرهما في النسيان " .... نسيا حوتهما ..." وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الروح والفتية – أصحاب الكهف – وذي القرنين إنه سيعطيهم الجواب غداً دون أن يربط ذلك بمشيئة الله فتأخر الجواب خمسة عشر يوماً ثم نزل عليه قوله تعالى : " ولا تقولنّ لشيء : إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله " وأمره أن يذكر الله تعالى ، فقال : " واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً " .
- ومن الأدب التربوي في هذه القصة كذلك أن موسى حين علم بخطئه وخطأِ فتاه لم يشغل نفسه بلوم نفسه أو لوم صاحبه فهناك أمر مهم جداً عليهما تداركه قبل فواته . إنه لقاء الرجل المعلم . فماذا فعلا ؟ إنهما
أ – عادا سريعاً لم يضيعا الوقت ، والدليل على ذلك قوله تعالى : " فارتدا ..." وهذه الكلمة مع الفاء – حرف العطف والترتيب والتعقيب - تدلان على سرعة الحركة والعزم على الوصول بقوة إلى الهدف .
ب- عادا من حيث جاءا ، يستهديان بآثار الخطوات التي مشياها كي لا ينحرفا عن الصخرة " ... على أثارهما قصصاً ..." .
جـ - فكان عاقبة سرعتهما وجَدِّهما أن وصلا إلى الهدف فوراً " فوجدا عبداً من عبادنا ..." .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك