تفسير قوله تعالى
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 123].
﴿ يَلُونَكُمْ ﴾؛ أي: يلون بلادَكم وحدودها.
﴿ غِلْظَةً ﴾: قوة بأس، وشدَّة مِراس؛ ليَرهبوكم وينهزموا أمامكم.
﴿ الْمُتَّقِينَ ﴾: هم الذين اتقوا الشركَ والمعاصي، والخروجَ عن السنن الإلهية في النصر والهزيمة.
قال الشيخ أبو بكر الجزائري:
لما طَهُرَت الجزيرةُ من الشرك وأصبحَت دارَ إسلام، وهذا في أخريات حياة الرسول، وذلك بعد غزوة تبوك - أمر اللهُ
تعالى المؤمنين بأن يواصلوا الجهادَ في سبيله بعدَ وفاة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأرشدهم إلى الطريقة التي يجبُ أن يتَّبعوها في ذلك؛ وهي: أن يبدؤوا بدعوةِ وقتال أقرب كافرٍ منهم؛ والمراد به الكافر المتاخِم لحدودهم؛ كالأردنِّ أو الشام أو العراق مثلاً، فيعسكروا على مَقرُبة منهم ويدعونهم إلى خصلة مِن ثلاث: الدخول في دين الإسلام، أو قَبول حماية المسلمين لهم؛ بدخول البلاد، وضرب الجزية على القادرين منهم مقابل حمايتهم وتعليمهم، وحكمهم بالعدل والرحمة الإسلامية، أو القتال حتى يَحكم اللهُ بيننا وبينكم، فإذا ضُمَّت أرضُ هذا العدو إلى بلادهم وأصبحت لهم حدودٌ أخرَى فعَلوا كما فعلوا أولاً، وهكذا؛
﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، فتسعد البشريةُ في دنياها وآخرتها.
وتوجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي صلى الله عليه وسلم فيه إيماءٌ إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يغزو لله بعد ذلك، وأنَّ أجَلَه الشريف قد اقترب، وفعلاً؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ما غزا بعد تبوك، وإنما حجَّ حجَّة الوداع وبعدها بواحدٍ وثمانين يومًا استأثر اللهُ
تعالى بروحه الطاهرة الشريفة.
وكلمة
﴿ غِلْظَة ﴾ الكسر لغة الحجاز، والضم (غُلْظَة) لغة بني تميم؛ والمراد الجُرأة على القتال والصبر عليه، مع العنف والشدَّة في القتل، والقصد من هذا إلقاءُ الرُّعب في قلوب الكافرين حتى يخشَوا قتالَ المسلمين.
وفي قوله:
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ افتتاحُ الجملة بـ﴿
اعْلَمُوا ﴾؛ للاهتمام بما يُراد العلم به، وفي الجملة تسليةٌ للمؤمنين بعد فقد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وأن الله معهم بالنصر والتأييد، فاتَّقوه بلزوم طاعتِه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أمرهِما ونهيهما في السِّلم والحرب[1].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
أمر اللهُ
تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفارَ؛ الأقربَ فالأقربَ إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلمَّا فرَغَ منهم وفتح مكةَ والمدينة والطائف، وغيرَ ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناسُ من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجًا - شرَع في قتال أهل الكتاب، فتجهَّزوا لغزوِ الروم؛ لأنهم أهلُ كتاب، فبلغ تبوكَ، ثم رجع لأجل جهد الناس وجَدْب البلاد، وضيق الحال، وذلك سنة تسعٍ من هجرته عليه الصلاة والسلام، ثم اشتَغَل في السَّنة العاشرة بحجَّة الوداع، ثم عاجلَتْه المنيَّة صلوات الله وسلامه عليه بعد حجَّتِه بأَحد وثمانين يومًا، فاختاره اللهُ لما عنده.
وقام بالأمر بعده وزيرُه وخليفتُه أبو بكر الصديق، فأدَّى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبَدةِ الصُّلبان، وإلى الفُرس عبَدة النِّيران، ففتح اللهُ ببركة سفارته البلادَ، وأرغم أنفَ كِسرى وقيصر ومَن أطاعهما من العِباد، وأنفق كنوزَهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من تمام الأمر على يدَي وصيِّه من بعده، ووليِّ عهده الفاروق عمر بن الخطاب، فأرغم اللهُ به أنوفَ الكفَرة الملحدين، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا.
ثم لما مات أجمع الصحابةُ من المهاجرين والأنصار على خلافة عثمان بن عفان شهيدِ الدار، فكسا الإسلامَ حُلَّةً سابغةً، وأحدَث في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجَّة الله البالغة، فظهر الإسلامُ في مشارق الأرض ومغاربها وعلَت كلمةُ الله وظهَر دينُه، وبلَغَت الملة الحنيفيَّة من أعداء الله غايةَ مآربها، وكلَّما علَوا أمةً انتقلوا إلى مَن بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار؛ امتثالاً لقوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ﴾.
وقوله تعالى:
﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾؛ أي: وليَجِدِ الكفارُ منكم غلظةً في قتالكم لهم؛ فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا بأخيه المؤمن، وغليظًا على عدوِّه الكافر؛ كقوله تعالى:
﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]، وقوله:
﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وقال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73].
وقوله:
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي: قاتلوا الكفار وتوكَّلوا على الله، واعلموا أن الله مَعكم إذا اتَّقيتموه وأطعتموه، وهكذا الأمر لما كانت القرونُ الثلاثة الذين هم خيرُ هذه الأمَّة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله؛ لَم يزالوا ظاهرين على عدوِّهم، ولم تزل الفتوحاتُ كثيرة، ثم لما وقعَت الفتنُ والأهواء والاختلافاتُ بين الملوك، طمع الأعداءُ في البلاد، ثم لم يزالوا حتى استحوَذوا على كثير من بلاد الإسلام[2]، و﴿
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ [الروم: 4][3].
[1] أيسر التفاسير؛ الجزائري ج 1 ص 588.
[2] مختصر
تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى؛ الصابوني ج2 ص 179.
[3] قلت: إذا كان ابن كثير رحمه الله
تعالى - المتوفى سنة 774 ه؛ أي: منذ أكثرَ من ستة قرون - يقول هذا الكلام في زمانه فماذا نقول نحن الآن؟! فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الالوكة