بر الوالدين من أفضل الأعمال، وأجل القربات، وأحبها إلى الله، وأزكاها عنده، وهو من أكبر أسباب كسب الثواب، وتحصيل الحسنات، وتكفير السيئات، ومن أقرب الطرق الموصلة إلى الله، والفوز بجنته ورضاه، بل لقد جعل الله رضاه في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما، وجعلهما أوسط أبواب الجنة، بل جعل الجنة تحت أقدامهما .
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد "[1].
وجاء إليه رجل يستأذنه في الجهاد، فقال: " أحي والداك؟ قال نعم. قال: ففيهما فجاهد "، وفي رواية أخرى: " أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما "[2].
فدل الحديث على أن الجهاد إذا لم يكن فرض عين، فإنه لا يصح الخروج إليه إلا بإذن الوالدين، وأن الاشتغال ببرهما نوع من الجهاد في سبيل الله.
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: " سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ " وفي رواية: " أي الأعمال أقرب إلى الجنة؟ قال: الصلاة على وقتها. قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله "[3].
فقَدَّم برهما على الجهاد في سبيل الله، وبين أن برهما في المرتبة الثانية بعد الصلاة التي هي عمود الدين، وأفضل العبادات وأحبها إلى الله.
وهذا كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ...} [الإسراء 23] فأمر بالإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادته.
وعن أبي أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ " أن أعرابيًا عرض لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله، أو يا محمد ! أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم نظر في أصحابه، ثم قال: لقد وفق أو لقد هدي، قال كيف قلت؟ قال: فأعاد. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم " وفي رواية: " فلما أدبر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن تمسك به دخل الجنة "[4] فدل قوله: " وتصل الرحم " على أن بر الوالدين من أعظم أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار، لأنهما أقرب الناس نسبًا، وأمسهم رحمًا.
ويدل على ذلك أيضًا قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه "[5].
وعن معاوية بن جاهمة السلمي :" أن جاهمة جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول الله ! أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك. فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها ".
وفي رواية: " الزم رجلها، فثَمَّ الجنة "[6].
ورواه الطبراني[7] بلفظ: " أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أستشيره في الجهاد، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألك والدان؟ قلت نعم. قال: الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما ".
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" نمت فرأيتني في الجنة، فإذا قارىء يقرأ، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا حارثة بن النعمان. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كذلك البر، كذلك البر، كذلك البر. وكان أبر الناس بأمه "[8].
هذا بعض جزاء من بر بوالديه في الآخرة، أما جزاؤه في الدنيا: فهو أن يبارك الله له في عمره، وينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويرفع ذكره، وييسر أمره، ويفرج كربه، ويغفر ذنبه، ويجيب دعاءه، ويكافئه ببر أولاده به.
أما مباركة الله له في رزقه وزيادة عمره، فيدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه"[9].
ويقول ـ أيضًا ـ: " صلة الأرحام وحسن الجوار، وحسن الخلق تُعمر بها الديار وتزداد بها الأعمار"[10].
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر "[11].
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ينسأ له في أثره " معناه: يؤخر له في أجله، وسمي الأجل أثرًا لأنه يتبع العمر، قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أَثَر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر.[12] وقد يشكل على هذا: أن الآجال مقدرة لا تزيد ولا تنقص، كما قال تعالى: {... فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف 34]، فكيف يزاد له في عمره؟
والجواب عن هذا من خمسة وجوه: الوجه الأول: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق للطاعة، والعصمة عن المعصية، والصيانة عن التفريط والإضاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الدنيا والآخرة، كأن يوفق لعلم نافع، أو جهاد مبارك، أو صدقة جارية، أو ذرية صالحة، أو غيرها من الفضائل والهبات التي يبقى له ذخرها، ويرتفع بها قدره عند الله تعالى وعند خلقه.
ونظير هذا ما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر، هذه الليلة المباركة التي يحصل في ساعاتها القليلة من الأجور الجزيلة والخيرات الكثيرة، ما لا يحصل في ألف شهر سواها،{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ِ} [القدر 2-3][13].
والحاصل: أن الله تعالى يبارك في عمر واصل الرحم، ويعينه ويوفقه، ويهديه ويسدده، فيحصِّل من الخير والأجر، والعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، ما لا يحصله صاحب القطيعة والعقوق، ولو كان عمره أضعاف عمر الواصل لرحمه.
فمن الناس من يعيش مائة سنة أو تزيد، ويكون حظه منها لا يزيد عن بضع سنوات. فليس طول العمر بكثرة الشهور والأعوام , ولكن بالبركة فيه، كما أن سعة الرزق ليست بكثرته، ولكن بحلول البركة فيه. الوجه الثاني: أن الزيادة على حقيقتها، وأن ذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما التقدير الأول الذي دلت عليه الآية فهو بالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلاً: إن عمر فلان مائة إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد 39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى، فلا محو فيه البتة، ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق.[14] الوجه الثالث: أن الله يجعل له لسان صدق وثناء وحمد، فيرتفع ذكره ويشتهر فضله في حياته وبعد مماته، ولا يضمحل أثره بمجرد موته كما هو الحال في قاطع الرحم[15]. والذكر للإنسان عمر ثاني، ولا يزال الإنسان معمرًا ما دام ذكره الحسن باقيًا.
وقد صدق القائل:
إن الحياة دقائق وثواني
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك