كانت الأبقار والشياه الحلوب, ترتع في مزارعه, وتنيخ في مرابضه الابل الخفاف, والنياق الولود, وتسرح بأرضه الخيل والبغال والحمير.
ولقد أفاض الله برزقه على عبده الصالح ففوق ما رزقه من نعمة المال, رزقه نعمة أخرى جزيلة محبوبة, تلك نعمة الأولاد البنات والبنين.
فقد كمل له بذلك ما تمنّاه كل امرئ لنفسه من متع الدنيا ورفاهية الحياة, ولذاذة العيش, ونضرة النعيم.
فهل كان هذا الرجل الصالح بما أعطاه الله من نعم الدنيا وبهجة الحياة منعما مرفها, ينعم بجاه المال ويهنأ بخلف من البنين والبنات, ونسى كل ما عداه؟ والحق يقال عكس ذلك, فلم يكن ذلك الرجل كذلك, فلم يبخل على نفسه وعياله, وكان لا يحب كنز المال.
كان ذلك الرجل ذا مال ولكن هذا المال كان لمن حوله قبل ان تكون لنفسه, وكان منها زكاة وهبات وعطايا كان برا بكل من حوله! يرعى غلمانه وخدمه قبل أن يرعى أهله, فلكل رجل من أتباعه زوجة ودار ومتاع, ولكل غلام مدّخر من المال.
وكان لا يطعم طعاما وهو يعلم بمكان جائع يشتهي الطعام!
وكان لسانه لا يكف عن ذكر الله والحمد والتسبيح لربه ولا يفتر جنانه عن التفكير في الله عز وجل.
وتحدث الناس عنه, ولهجت ألسنتهم بالدعاء له والثناء عليه, وعمرت قلوبهم بحبه والاخلاص له! وكذلك أهل السماء من الملائكة ذكروه ذكرا حسنا.
كل هذا أغاظ ابليس, كثرة ذكر هذا الرجل والثناء عليه, وابليس أقسم أن يغوي البشر أجمعين, وبسبب ذلك طرده ربه من الجنة جزاء عصيانه, فقال كلمته المعروفة: رب, بما أغويتني وطردتني بسبب آدم لأزينن لذريته في الأرض, ولأغوينهم أجمعين.
واستطرد ابليس قائلا: الا عبادك المخلصين.
وكان هذا الرجل من عباد الله المخلصين.
تحدّث الملائكة,ملائكة الأرض فيما بينهم عن الخلق وعبادتهم, قال قائل منهم:
ما على الأرض اليوم خير من هذا الرجل, هو أعظم المؤمنين ايمانا, وأكثرهم عبادة لله, وشكرا لنعمته ودعوة له.
وسمع الشيطان ما يقال... فساءه ذلك, وطار الى ذلك الرجل محاولا اغواءه,
كان ذلك الرجل محصنا بايمانه ضد وسوسة الشيطان, فما استطاع ابليس أن يغريه بشيء مما يغري به الأغنياء! وما قدر على أن يدفع به الى ما كان يدفع اليه أمثاله من الأثرياء!!
حاول ابليس عن طريق شياطين البشر أن يحرّضه على ارتكاب المعاصي, فأتاه بشرذمة من الناس يزيّنون له اللهو والمجون والمتعة المحرّمة, ويدعونه الى ترك التقشف, والى التهاون في العبادة لينعم نفسه بمباهج الدنيا, ويمتعها بما أوتي من نعم وجاه ومال.
ولكن قلبه كان تقيّا نقيّا, فلم يستجب لما زيّن له؛ وكانت نفسه مؤمنة ورعة, فلم تسمع ما دعيت اليه.
كانت متعته تكمن في أشياء كثيرة, كانت متعته في أن يكفل أيتاما مات عنهم عائلهم, وكانت بهجته في أن يساعد بماله أرملة ذهب عنها رجلها, أو فقير أضرّ به فقره, أو عاجزا أقعده عجزه, فيشعر بالسعادة لسعادتهم ويهنأ لهنائهم, ويشكر الله على أن هيأ له كل هذه السعادة وكل هذا الهناء.
وطال الأمد بإبليس دون أن يستطيع الوصول الى غايته من استمالته ببلاء لم يكن منتظرا, سرّ له ابليس وفرح فعاود معه نشاطه من جديد,
حين يئس الشيطان من اغوائه, قال لله تعالى:
يا رب ان عبدك الذي يعبدك ويقدسك لا يعبدك حبا, وانما يعبدك لأغراض.
يعبدك ثمنا لما منحته من مال وبنين, وما أعطيته من ثروة وعقار, وهو يطمع أن تحفظ عليه ماله وثراءه وأولاده, وكأن النعم العديدة التي منحتها له هي السر في عبادته, انه يخاف أن يمسها الفناء أو تزول.. وعلى ذلك فعبادته مشوبة بالرغبة والرهبة, يشيع فيها الخوف والطمع.. وليست عبادة خالصة ولا حبا خالصا.
وقد ذكرت الرواية أن الله تعالى قال لابليس:
ان عبدي مؤمن خالص الايمان.. وليكون قبسا من الايمان ومثالا عاليا في الصبر.. قد أبحتك ماله وعقاره.. افعل ما تريد, ثم انظر الى ما تنتهي.
وهكذا انطلقت الشياطين فأتت على أرضه وأملاكه وزروعه ونعمه ودمّرتها جميعا.. وانحدر العبد الصالح من قمة الثراء الى حضيض الفقر فجأة.. وانتظر الشيطان .. وقال الرجل الصالح عن المال:
عارية لله استردها.. ووديعة كانت عندنا فأخذها, نعمنا بها دهرا, فالحمد لله على ما أنعم, وسلبنا اياها اليوم, فله الحمد معطيا وسالبا, راضيا وساخطا, نافعا وضارا, وهو الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء, ويضر من يشاء, ويذل من يشاء, ثم خرّ ساجدا وترك ابليس وسط دهشته المخزية.
وعاد الشيطان يقول لله تعالى:
يا رب.. اذا كان لم يقابل النعمة الا بالحمد, والمصيبة الا بالصبر, فليس ذلك الا اعتدادا بما لديه من أولاد.. انه يطمع أن يشتدّ بهم ظهره ويسترد بهم ثروته.
وتستطرد الرواية فتقول: ان الله أباح للشيطان أولاده.. فزلزل عليهم البيت الذي يسكنون فيه فقتلهم جميعا.
وهنا قال الرجل الصالح داعيا ربه:
الله أعطى.. والله أخذ.. فله الحمد معطيا وسالبا, ساخطا وراضيا, نافعا وضارا.
ثم خرّ ساجدا وترك ابليس وسط دهشته المخزية.
وعاد ابليس يدعو الله, أنه لم يزل صابرا لأنه معافى في بدنه, ولو أنك سلطتني يا رب على بدنه.. فسوف تكف عن صبره.
أعتقد أنكم عرفتموه ........................... إنه أيوب عليه السلام .........................................
وتقول الرواية أن الله أباح جسد أيوب للشيطان يتصرف فيه كيف يشاء.. فضرب الشيطان جسد أيوب من رأسه حتى قدميه, فمرض أيوب مرضا جلديا راح لحمه يتساقط ويتقيّح.. حتى هجره الأهل والأصحاب.. ولم يعد معه الا زوجته..
ومرت الأيام, وتتابعت الشهور, وأيوب تزداد حالته سوءا,حتى لم يعد يستطيع أحد أن يقترب منه لعفن قروحه, ونتن رائحتها, فبرم الناس به, ونفروا منه, وانقطعوا عن زيارته, وتذمّر أهله من جيرته وظلت زوجته هي الوحيدة التي تخدمه, وتقضي له حاجاته.
ومرت السنون وأهل أيوب لا يستطيعون على جيرته صبرا, ولا يحتملون له قربا, وجهروا باستيائهم, وأظهروا تذمّرهم بالأقوال والأفعال, فلم تجد رحمة بدا من أن تعرش لزوجها عريشا في ظاهر المدينة وتنقله اليه.
وانتقل أيوب عليه السلام الذي كان يملك الضياع, ويسكن القصور الى عريش من القش على قارعة الطريق, ورغم ذلك لم يتركه الناس لحاله, بل كانوا اذا مرّوا عليه أظهروا تذمرهم, وأبدوا تأففهم. وقالوا: لو كان رب هذا له حاجة فيه لما فعل به ذلك.
وهكذا ظل أيوب تمر عليه السنة تلو السنة وهو جسد ملقى في عريشه لا يصدر عنه حركة الا حركة لسانه في فمه بذكر الله, ولا يسمع منه الا صوت يردد اسم الله.
كانت رحمة زوجة أيوب تقوم بخدمة الناس لتكسب لها ولأيوب من طعامهما, وما يقوم بأودهما. ثم تعود اليه في نهاية اليوم بما تيسر لها الحصول عليه من طعام تطعمه وتسقيه, وتقضي الليل بجانبه؛ فاذا أصبح الصباح عاودت ما فعلته بالأمس.
ولكن هذ الحالة لم تدم لاشمئزاز الناس الذين كانت تقوم بخدمتهم, لعلمهم أنها تقوم على خدمة أيوب المبتلى, وعلى غسل جروحه وتضميد قروحه, فأظهروا لها الامتعاض من خدمتها لهم, ثم طردوها من خدمتهم.
فأصبحت "رحمة" بلا عمل وسدّت منافذ الكسب في وجه رحمة!
وفكرت رحمة وهداها تفكيرها الى أن تذهب مع الصباح الى سوق في ظاهر المدينة, ويدها قابضة على حزمة ملفوف بها شيء
وفكرت رحمة وهداها تفكيرها الى أن تذهب مع الصباح الى سوق في ظاهر المدينة, ويدها قابضة على حزمة ملفوف بها شيء يبدو أنها تحرص عليه, وتعول من ورائه على خير كثير.
وبلغت رحمة السوق, واتجهت الى الجانب الذي تعرض فيه حاجات النساء من زينة وعطر وملبس, وفتحت لفافتها بيد مرتعشة, وجلست مع البائعات, وكانت بضاعتها ضفيرة من الخيوط الذهبية الطويلة الناعمة, كانت بالأمس نصف شعرها, فباعتها الى أحد النساء وأخذت ثمنها.
وابتاعت رحمة بثمن شعرها طعاما وشرابا, وعادت الى زوجها تطعمه وتسقيه, فقد كانت برّة وفية بزوجها.
وبعد أن نفد ثمن شعرها ما بقي لها شيء تبيعه.
ولكن أيوب كان على صلابته وقوته, ويئس الشيطان فكر في رحمة فذهب اليها وملأ قلبها باليأس حتى ذهبت الى أيوب تقول له :
حتى متى يعذبك الله, أن المال والعيال والصديق والرفيق, أين شبابك الذاهب وعزك القديم؟
وأجاب أيوب امرأته: لقد سوّل لك الشيطان أمرا.. أتراك تبكين على غرفات وولد مات؟
قالت: لماذا لا تدعو الله أن يزيح بلواك ويشفيك ويكشف حزنك؟
قال أيوب: كم مكثنا في الرخاء؟!!
قال رحمة: ثمانين سنة.
قال أيوب: كم لبثنا في البلاء والمرض؟
قالت سبع سنين.
قال: أستحي أن أطلب من الله رفع بلائي, وما قضيت فيه مدّة رخائي.
لقد بدأ ايمانك يضعف يا رحمة, وضاق بقضاء الله قلبك.. لئن برئت وعادت اليّ القوة لأضربنّك مئة عصا.. وحرام بعد اليوم أن آكل طعاما من يديك أو أشرب شرابا أو أكلفك أمرا.. فاذهبي عني.
وذهبت عنه زوجته وبقي أيوب جسدا صابرا وحيدا, يحتمل ما لا تحتمله الجبال.. وأخيرا فزع أيوب الى الله داعيا متحننا لا متبرما, ودعا الله أن يشفيه.
2. المعجزة
ماذا قال أيوب في دعائه يا ترى؟ لقد قال القرآن الكريم أن أيوب نادى ربه فقال:
{أني مسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين} الأنبياء 83.
وجاءت الاستجابة سريعة من الله عز وجل, ونزل وحي الله على أيوب:{ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}. 42.
وضرب أيوب الأرض برجله الضعيفة كما أمره الله, فانفجرت عيون من ماء عذب زلال بارد وصاف, فاغتسل أيوب بماء احدى هذه العيون التي فجرها له الله سبحانه عز وجل, فاذا بجلده الدامي المتقرّح يصبح سليما نظيفا جميلا, وشرب أيوب من ماء عين أخرى, فاذا به سليم معافى, قد سرت في جسمه القوّة, ودبّ النشاط..!!
وكانت احدى معجزات الله القادر على كل شيء الذي يقول للشيء كن فيكون.
وجلس أيوب وقد استردّ صحته, وعافيته, ورونقه وجماله, في حلة قشيبة من عند الله, فشكر الله على ما ابتلاه, وعلى ما أنعم به عليه.
وكان قد أقسم أن يضرب امرأته مائة ضربة بالعصا عندما يشفى, وها هو قد شفي, وكان الله سبحانه وتعالى يعرف أنه لا يقصد ضرب امرأته, ولكي لا يرجع عن يمينه أو يكذب فيها أمره الله أن يجمع حزمة من أعواد الريحان عددها مائة, ويضرب بها امرأته ضربة واحدة, وبذلك يكون برّ في قسمه ولم يكذب.
رحم الله أيوب العبد الصابر.
{ وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث, انا وجدناه صابرا, نعم العبد انه أوّاب}
ذكرت قصة هذا العبد الصالح في هذا المنتدى ولكن باختصار ... فوددت أن أذكرها كاملة إن شاء الله....
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك