﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الصف: 1]
قال صاحب "العجائب"[1]: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ ﴾ [الصف: 1] هذه كلمة استأثر الله بها فبدأ بالمصدر منها في بني إسرائيل؛ لأنه الأصل، ثم الماضي ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ ﴾ [الصف: 1] في الحديد والحشر والصف؛ لأنه أسبق الزمانين، ثم المستقبل في الجمعة والتغابن، ثم بالأمر في سورة الأعلى؛ استيعابًا لهذه الكلمة من جميع جهاتها، وهى أربع: المصدر والماضي والمستقبل والأمر المخاطب، فهذه أعجوبة وبرهان. أ. هـ[2].
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]
قوله تعالى حاكيًا عن عيسى: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]، ولم يقل "محمد"؛ لأنه لم يكن محمدًا حتى كان أحمدَ، حمد ربّه، فنبّأه وشرّفه، فلذلك تقدم على محمد فذكره عيسى به[4].
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]
قال الزمخشري[5]: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ ﴾ [الصف: 8]، أصله: يريدون أن يطفئوا كما جاء في سورة برآءة[6].
﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الصف: 11، 12]
قوله تعالى: ﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ ﴾ [الصف: 11]، معناه: آمنوا وجاهدوا، ولذلك أجيب بالجزم في قوله: ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ﴾ [الصف: 12]، ولا يصح أن يكون جوابًا للاستفهام في قوله: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ ﴾ [الصف: 10][7]؛ لأن المغفرة وإدخال الجنان لا يترتبان على مجرد الدلالة، قاله أبو البقاء[8] والشيخ عز الدين[9].
والتحقيق ما قاله النبيلي[10]: أنه جعل الدلالة على التجارة سببًا لوجودها، والتجارة: هي الإيمان، ولذلك فسّرها بقوله: ﴿ تُؤْمِنُونَ ﴾ [الصف: 11]، فعُلِم أن التجارة من جهة الدلالة هي الإيمان، فالدلالة سبب الإيمان، والإيمان سبب الغفران، وسبب السبب سبب، وهذا النوع فيه تأكيد، وهو من مجاز التشبيه، شبّه الطلب في تأكده بخبر الصادق الذي لا بد من وقوعه، وإذا شبهه بالخبر الماضي كان آكد[11].
وقوله تعالى: ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [الصف: 12] فإنه يقال: كيف جاء الجزم في جواب الخبر؟ وجوابه: أنه لمّا كان في معنى الأمر جاز ذلك، إذ المعنى: آمنوا وجاهدوا.
وقال ابن جني: لا يكون "يغفر" جوابًا لـ "هل أدلكم" وإن كان أبو العباس[12] قد قاله؛ لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلالة. أ- هـ، وقد يقال الدلالة: سبب السبب[13].
[9] الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، للعز بن عبدالسلام ص/ 26-27.
[10] هو محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي النيلي النحوي، أبو جعفر ابن أخي مُعاذ الهرّاء، سُمِّي الرُّؤاسيّ؛ لأنه كان كبير الرأس؛ وهو أول من وضع من الكوفيين كتابًا في النحو، وهو أستاذ الكسائي والفراء، وكان رجلاً صالحًا، كتابه يقال له "الفيصل"، قال الزبيدي: كان أستاذ أهل الكوفة في النحو، أخذ عن عيسى بن عمرو، وله كتاب "الإفراد والجمع". (بغية الوعاة 1/ 82 رقم الترجمة (134).
[11] البرهان: بيان حقيقته ومجازه - إقامة صيغة مقام أخرى 2/ 179.
[12] هو محمد بن يزيد بن عبدالأكبر الأزدي، تقدم عند تفسير الآية رقم (22) من سورة الكهف.
[13] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - وضع الخبر موضع الطلب في الأمر والنهي 3/ 218.
[14] المصدر السابق: قواعد تتعلق بالتشبيه 3/ 261.
[15] المصدر السابق: بيان حقيقته ومجازه - النقصان 2/ 170.
الالوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك