وقيل: الخطاب في قوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾لآدم وحواء، وخوطبا بالجمع؛ لأن أقل الجمع اثنان، كما قال تعالى بعد أن ذكر حكم داود وسليمان - عليهما السلام - قال: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 78] بضمير الجميع، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة طه: ﴿ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ [طه: 123] بالتثنية.
والأظهر أن الخطاب في قوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾لآدم وحواء وإبليس، والخطاب في قوله: ﴿ اهْبِطَا ﴾ بالتثنية لآدم وإبليس، وحواءُ تبعٌ لآدم فيما خوطب به، كما أن ذرية آدم تابعة له فيما خوطب به من التكليف والاتِّباع.
ويقوِّي كونَ خطابِ الجمع ﴿ اهْبِطُوا ﴾لآدم وحواء وإبليس، وخطابِ التثنية لآدم وإبليس - قولُه تعالى: ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾؛ لأن المراد بالعداوة عداوة إبليس لآدم وزوجه وذريتهما، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22]، وقال تعالى: ﴿ يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117]، وهي العداوة التي أكَّدها القرآن الكريم في مواضع عدة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168، 208، الأنعام: 142].
قال ابن القيم[1] في معرض ترجيح أن المراد بقوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾آدم وزوجه وإبليس، قال: "وأما قوله تعالى في سورة طه: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [طه: 123]، فهذا خطاب لآدم وحواء، وقد جعل بعضهم لبعض عدوًّا، فالضمير في قوله: ﴿ اهْبِطَا مِنْهَا ﴾ إما أن يرجع لآدم وزوجته، وإما أن يرجع إلى آدم وإبليس، ولم يذكر الزوجة لأنها تبعٌ له، وعلى هذا فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالإهباط، وهما آدم وإبليس، فالأمر ظاهر.
وأما على الأول - وهو رجوعه إلى آدم وزوجه - فتكون قد اشتملت على أمرين: أحدهما: أمره تعالى لآدم وزوجه بالهبوط، والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وزوجه وبين إبليس؛ ولهذا أتى بضمير الجمع في الثاني دون الأول، ولا بد أن يكون إبليس داخلًا في حكم هذه العداوة قطعًا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117]، وقال لذريته: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6].
وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع، دون التثنية. وأما الإهباط فتارة يُذكَر بلفظ الجمع، وتارة بلفظ التثنية، وتارة بلفظ الإفراد؛ كقوله في سورة الأعراف: ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: 13]، وكذلك في سورة ص[2]، وهذا لإبليس وحده، وحيث ورَدَ بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس؛ إذ مدار القصة عليهم، وحيث ورد بلفظ التثنية فإما أن يكون لآدم وزوجه؛ إذ هما اللذان باشَرَا الأكل من الشجرة، وأقدَما على المعصية، وإما أن يكون لآدم وإبليس؛ إذ هما أبوا الثقلين، وأصلا الذرية، فذكر حالهما ومآل أمرهما؛ ليكون عظة وعبرة لأولادهما. والذي يوضح أن الضمير في قوله: ﴿ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ لآدم وإبليس أن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرَدَ بها آدم دون زوجه، فقال: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ [طه: 121 - 123]، وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم وإبليس الذي زيَّن له المعصية، ودخلت الزوجة تبعًا، فإن المقصود إخبار الله تعالى الثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر، فذِكْرُ أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذِكرِ أبوَي الإنسان فقط، وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم، وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة، فعلم أن حكم الزوجة كذلك، وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم، وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوَي الثقلين أولى من تجريدها إلى ذكر حال أبي الإنس وأمِّهم، فتأمَّله، وبالجملة فقوله: ﴿ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ ظاهر في الجمع، فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله: ﴿ اهْبِطَا ﴾من غير موجب".
﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾؛ أي: ولكم في الأرض مسكن وموضع استقرار، وهذا بعد قوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ يدلُّ على أنهم قبل ذلك لم يكونوا في الأرض، وأن منتهى إهباطهم إليها، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾ [غافر: 64]، وعليه يدل قوله تعالى: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25].
﴿ وَمَتَاعٌ ﴾؛ أي: ولكم في الأرض متاع تتمتعون به، والمتاع: ما يُتمتَّعُ به من رزق؛ من مأكل ومشرب، وملبس ومركب، وفرش، وغير ذلك.
﴿ إِلَى حِينٍ ﴾؛ أي: إلى وقت معيَّن وأجل محدَّد، وهو انقضاء آجالكم وقيام الساعة، وانتقالكم إلى الدار الآخرة التي هي دار الحياة حقًّا، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
وهو متاع قليل، كما قال تعالى: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما لي وللدنيا؟! إنما كراكبٍ استظَلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها))[3].
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تَزِنُ عند الله جَناحَ بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء))[4].
وفي الآية ما يوجب الحذرَ من الشيطان؛ فإنه كما أخرج الأبوين من الجنة، فإنه ساعٍ سعيًا حثيثًا بخَيْلِه ورَجِلِه إلى حرمان ذريتهما من دخولها، وإلى زجِّهم معه في نار جهنم؛ وذلك بتزيين الكفر والبدع والمعاصي لهم، كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ [الأعراف: 27]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].