و﴿ رَبِّ ﴾ في الأصل مأخوذ من التربية للشيء وتنميته، وتبليغه إلى كماله، كما قال تعالى: ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾ [النساء: 23]؛ أي: اللاتي تُربُّونَهن في حجوركم.
وهو بمعنى المالك والسيد، كما قال تعالى: ﴿ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: 41]؛ أي: مالكه وسيده، وفي الحديث: ((أن تَلِدَ الأَمَةُ ربَّتَها))[1] ؛ أي: مالكتها وسيدتها.
وبمعنى: المعبود حتى لو كان بغير حقٍّ، كما قال تعالى: ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].
وبمعنى القائم على الشيء ومدبِّره ومُصلِحه ومتولِّيه، ومنه اسم الله عز وجل: "القيوم".
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟))[3]؛ أي: تقوم بها وتُصلِحُها.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لأنْ يَرُبَّني بنو عمي أحَبُّ إليَّ من أن يَرُبَّني غيرهم"[4]؛ أي: يكون عليَّ ربًّا؛ أي: أميرًا يقوم بأمره، ويملك تدبيره، ويدخل تحت طاعته.
تخُبُّ إلى النُّعمـانِ حتى تَنالَه *** فَدًى لك مِن رَبٍّ طَرِيفِي وتالِدِي
وبمعنى صاحب الشيء، كما قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 180]؛ أي: صاحب العزة.
وكل هذه المعاني حقٌّ بالنسبة له تعالى؛ فهو تعالى مربِّي الخلق؛ خالِقُهم ومالكهم، ومدبِّرهم، وسيدهم، وهو معبودهم بحقٍّ، وهو القيوم على كلِّ شيء ومدبِّرُه ومُصلِحه، وهو صاحب العزة سبحانه وتعالى؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية[7]: "الرَّبُّ: هو المربِّي الخالق الرازق الناصر الهادي".
واسمه تعالى: "الرب" يفيد أن الربوبية صفةٌ ذاتيَّة له تبارك وتعالى، وصفة فعليَّة[8].
وربوبية الله لخلقه نوعانِ: ربوبية خاصة، مقتضاها النصر والتأييد، واللطف والعناية، ونحو ذلك، وربوبية عامة، مقتضاها مطلَقُ التصرُّف.
فالربوبية العامة: هي خَلْقُه للمخلوقين ومُلكُه لهم، وتدبيره الكَونيُّ لهم، ورزقُه لهم، وهدايتهم لمصالح دنياهم، ونحو ذلك.
والربوبية الخاصة: هي ربوبية الله تعالى لأوليائه بهدايتهم إلى الصراط المستقيم بالإيمان والعلم النافع، والعمل الصالح، وفعل الخيرات، وترك المنكَرات، وذلك ملاكُ الأمرِ مع توفيقهم وحفظهم.
كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ [البقرة: 126].
وقال موسى عليه السلام: ﴿ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 25].
وكما في قول المؤمنين: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، وغير ذلك.
ولما كان من أخَصِّ معاني الربِّ المالك والمدبر والقائم بما يصلح الخلق؛ كان أكثر دعاء الأنبياء والمؤمنين باسمه تعالى "الرب"؛ لأنه أحَقُّ باسم الاستعانة والمسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية[9]: "فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الربِّ".
و"الرب" بالتعريف لا يُطلَق إلا على الله تعالى، و"ربُّ كذا" - بالإضافة - يطلق عليه وعلى غيره، فلزم إذا أُريدَ به غيرُ الله أن يُقيَّد بالإضافة، فيقال: ربُّ الدارِ، ورب الإبل[10]، كما قال يوسف عليه السلام: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: 41]، وقال أيضًا: ﴿ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ [يوسف: 42]، وقال أيضًا: ﴿ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ﴾ [يوسف: 50].
وفي الحديث: ((أن تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَها))[11].
ويظهر جليًّا من تعريف اسمه تعالى "الله"، و"رب العالمين" دخولُ اسم "الرب" في اسمه تعالى "الله"، وأن بينهما تداخُلًا وتلازُمًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية[12] عن هذين الاسمين: "فالاسم الأول - يعني "الله" - يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه، وما خُلِق له، وما فيه صلاحه وكماله، وهو عبادة الله. والاسم الثاني - يعني "رب العالمين" - يتضمن خلْقَ العبد ومبتداه، وهو أنه يَرُبُّه ويتولاه، مع أن الثاني يدخل في الأول دخولَ الربوبية في الإلهية، والربوبية تستلزم الألوهية أيضًا".
﴿ الْعَالَمِينَ ﴾: جمع عالَم بفتح اللام، اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ كرَهْطٍ وقوم.
والعالمين: كلُّ موجود سوى الله تعالى، وقد جُمِع ليشمل كلَّ جنس ممن سُمِّي به، فيعُم جميع المخلوقات في السموات والأرض، وما بينهما من الملائكة والإنس والجن والشياطين، والحيوانات والجمادات، وغير ذلك من سائر المخلوقات، كما دخلت عليه "أل" الدالة على الاستغراق؛ ليشمل كلَّ فرد من أفراد تلك الأجناس[13].
وهو مشتق من العلامة؛ لأن كل ما في الوجود من المخلوقات علامةٌ على وجود الله، وكماله بذاته وصفاته، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾ [الروم: 22]، إلى غير ذلك من الآيات.
قال الشاعر[14]:
فواعجبًا كيف يُعصى الإلـ
ـهُ أم كيف يجحَدُه الجاحدُ
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ
تدلُّ على أنه واحدُ
ويقال: إنه مشتق من "العِلم" بكسر العين[15].
والقول بأنه مشتق من "العِلم" إنْ أُريدَ به أنه تعالى خلَقَ "العالَمين" عن عِلم منه - جل وعلا - بهم، كما خلقهم - أيضًا - عن قدرة تامة، فصحيح، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].
وإن أُريدَ به أن هذه المخلوقات سمِّيت عوالم؛ لأن عندها شيئًا من العِلم المحدود الناقص القليل، أو عندها ما يخصها من العلم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44]، فهذا محتمل.
والقول بأنه مشتق من العلامة هو الأظهر، ويحتمل أنه مشتق منها ومن العلم[16]، والله أعلم.
وجمَعَ "العالمين" جمْعَ مَن يعقل، علمًا أنه يتناول العقلاء وغيرهم، مِن باب تغليب العقلاء على من سواهم؛ لأن العقلاء هم المعنيُّون بالخطاب والتكليف؛ لما ميَّزهم الله به عن الحيوان والجماد من العقل والإدراك، الذي هو مناط التكليف.
فقد غلَّب العقلاء على غيرهم في الآية الأولى بقوله: "عَرَضَهُمْ"، "هَؤُلَاءِ"، وفي الآية الثانية بقوله: "فَمِنْهُمْ".
أما قوله تعالى: ﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1] ونحوه، فالمراد به الإنس والجن فقط، فاستخدم لفظ: "العالمين" لبعض مدلوله.
وإنما حُمِل على أنه خاص بهم؛ لأنهم هم المعنيُّون بالنِّذارة دون غيرهم من سائر المخلوقات.
وهكذا فإن السياق نفسَه يحدِّد المراد بلفظة: "العالمين" أهو العموم لجميع المخلوقات، كما في أكثر المواضع الواردة في القرآن، أم الخصوص لبعضها، كما في آية الفرقان.
وكما في قوله: ﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 165]، فالمراد بهذا الذكران من عالَمِي زمانِهم من الإنس، وهكذا.
[1] أخرجه من حديث طويل من رواية أبي هريرة - البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9)، وأخرجه أيضًا مسلم مطولًا من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه (8).
[2] ذكر صاحب "شرح مغني اللبيب" للبغدادي (2/ 304 -309): أنه يُروى لراشد بن عبدربه، ولغاوي بن ظالم السلمي، ولأبي ذر الغفاري، وللعباس بن مرداس.
[3] أخرجه مسلم في البر والصلة (2567)، وأحمد (2/ 262، 408) - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.