﴿ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ﴾
قال الله تعالى: ﴿
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴾ [الأنبياء: 3 - 5].
أولًا: سبب نزولها:
ذكر المفسرون أن المشركين قالوا في تناجيهم: م هذا الذي يدَّعي النبوة - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - إلا بشر مثلكم، ولا يمكن أن يكون رسولًا، وما جاءنا به إنما هو السحر بعينه، فكيف تذهبون إليه، وتقبلون منه ما يدعيه، والحال أنكم تعاينون بأبصاركم سحره، وما حملهم على هذا القول الباطل إلا توهمهم أن الرسول لا يكون من البشر، وأن كل ما يظهر على يد مدَّعي النبوة من البشر من خوارق، إنما هو من قبيل السحر.
ثانيًا: تضمنت الآية بحسب سبب النزول افتراء المشركين على القرآن بأنه سحر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر، ثم انتقلوا في اتهامهم إلى القول بأنه صلى الله عليه وسلم شاعر، ثم انتقلوا إلى القول بأن القرآن أضغاث أحلام، وإنما أسروا ذلك - كما قال الألوسي - لأنه كان على طريق توثيق العهد، وترتيب مبادئ الشر والفساد، وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة، وإطفاء نور الدين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
ثالثًا: تلك كلها افتراءات رد الله عليها، وبيَّن بطلانها، ودافع عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وعن كلامه، وجاء هذا الرد تلقينًا للرسول عليه الصلاة والسلام، فقال سبحانه: ﴿
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 3]، وإليك بيانها:
الآية الأولى: ﴿
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾.
1- حكى سبحانه لونًا من ألوان مكرهم وخبثهم، فقال: ﴿
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾، والنجوى: المسارة بالحديث، وإخفاؤه عن الناس؛ أي: بعد أن استمعوا إلى القرآن بإعراض ولهو واستهتار، اختلى بعضهم ببعض، وبالغوا في إخفاء ما يضمرونه من سوء نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ما جاء به من عند الله تعالى، وحاولوا أن يظهروا ذلك فيما بينهم فحسب، مبالغة منهم في المكر السيئ الذي حاق بهم
.
2- وقوله سبحانه: ﴿
هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾، بيان لما قالوه في تناجيهم من سوء، والاستفهام للنفي والإنكار؛ أي: إنهم قالوا في تناجيهم: ما هذا الذي يدَّعي النبوة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم إلا بشر مثلكم، ولا يمكن أن يكون رسولًا، وما جاءنا به إنما هو السحر بعينه، فكيف تذهبون إليه، وتقبلون منه ما يدعيه، والحال أنكم تعاينون بأبصاركم سحره،وما حملهم على هذا القول الباطل إلا توهَّمهم أن الرسول لا يكون من البشر، وأن كل ما يظهر على يد مدَّعي النبوة من البشر من خوارق، إنما هو من قبيل السحر
.
قال الألوسي: وأرادوا بقولهم: (ما هذا إلا بشر مثلكم)؛ أي: من جنسكم، وما أتى به سحر، تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول، وأنتم تعاينون أنه سحر. قالوا ذلك بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكًا، وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر، وعنوا بالسحر، هنا القرآن الكريم، ففي ذلك إنكار لحقيته.
3- هذا، ودعوى المشركين أن الرسول لا يكون بشرًا، قد حكاها القرآن في كثير من آياته، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94]، وقد رد الله تعالى عليهم هذه الدعوى الكاذبة في كثير من آيات كتابه أيضًا، ومن ذلك قوله عز وجل: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [يوسف: 109].
الآية الثانية: ﴿
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنبياء: 4]؛ أي: قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الرد على ما تناجوا به سرًّا: ربي الذي أرسلني لإخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، يعلم ما تقولونه سواء كان سرًّا أم جهرًا، وهو وحده السميع لجميع ما يُسمع، العليم بكل شيء في هذا الكون، وما دام الأمر كذلك، فأنا سأمضي في طريقي مبلغًا رسالته سبحانه، أما أنتم فسترون سوء عاقبتكم إذا ما سرتم في طريق الكفر والعناد، وفي قراءة سبعية بلفظ قل على الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل لهم أيها الرسول الكريم: ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴾ [الأنبياء: 5]:
1- قوله تعالى: ﴿
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ ﴾: هذا فيه انتقال من حكاية قولهم السابق ﴿
هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ إلى حكاية أقوال أخرى باطلة قالوها في شأنه صلى الله عليه وسلم، وفي شأن ما جاء به؛ أي: إن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بما قالوه قبل ذلك في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه بشرٌ، وما جاء به سحر، بل أضافوا إلى ذلك أن القرآن أضغاث أحلام؛ أي: أخلاط كأخلاط الأحلام، وأنه أباطيل لا حقيقة لها
.
والأضغاث: جمع ضغث، وأصله ما جمع من أنواع شتى من النبات، ثم حزم في حزمة واحدة، والأحلام: جمع حلم - بضم الحاء وسكون اللام - وهو ما يراه النائم مما ليس بحسن
.
وقد استعير هذا التركيب لما يراه النائم من وساوس وأحلام خلال نومه
بَلِ افْتَراهُ؛ أي: اختلق هذا القرآن من عند نفسه
.
2- قوله تعالى: ﴿
بَلْ هُوَ شاعِرٌ ﴾؛ أي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم شاعر في زعمهم، وما أتى به هو نوع من الشعر التخييلي الذي لا حقيقة له،ثم أضافوا إلى هذا التخبط واضطراب قولهم:
3- ﴿
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴾، ومرادهم بالآية هنا: آية كونية، والمعنى: إن لم يكن كما قلنا في شأنه من أنه شاعر، بل كان رسولًا حقًّا، فليأتنا بخارق يدل على صدقه؛ كناقة صالح، وعصا موسى، فإن المرسلين السابقين فعلوا ذلك
.
وكأنهم - لانطماس بصائرهم وشدة جهالاتهم - لا يعتبرون القرآن الذي هو آية الآيات، لا يعتبرونه آية ومعجزة تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم، فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد صورت تخبُّط هؤلاء المشركين تصويرًا حكيمًا، شأنهم في ذلك شأن الحائر المضطرب الذي لا يستطيع الثبات على قرار، بل هو لتمحُّله وتعلُّله ينتقل من دعوى باطلة إلى أخرى أشد منها بطلانًا
.
4- وقد نفى القرآن عن الرسول صلى الله عليه وسلم كل هذه الدعاوى الباطلة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحاقة: 41 - 43]،وقوله سبحانه: ﴿
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 69]
الألوكة