منتديات الحقلة

منتديات الحقلة (http://www.alhaqlah.com/index.php)
-   منتدى القرآن الكريم والتفسير (http://www.alhaqlah.com/forumdisplay.php?f=89)
-   -   تفسير قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] (http://www.alhaqlah.com/showthread.php?t=126463)

طالبة العلم 23-02-2021 11:36 AM

تفسير قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]
 
تفسير قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]


هذه الآية هي الآية الرابعة من الفاتحة، نِصْفُها للرب جل وعلا، ونصفُها للعبد، كما قال الله عز وجل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((فإذا قال العبد: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفينِ، ولعبدي ما سأل...))، فقوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ للرب - تبارك وتعالى - مع ثلاث آيات قبلها، وقوله: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ للعبد، مع ثلاث آيات بعدها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية[1] في قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾: "فهذا تفصيل لقوله: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يُعبَد أحد سواه، فقوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي، ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكُّل والتفويض والتسليم".

قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾:
﴿ إِيَّاكَ ﴾ في الموضعين ضمير بارز منفصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدَّم للفعل بعده، أو "إيا" ضمير مبني في محل نصب مفعول به، والكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب.

وهذا مذهب الأخفش، واختاره الزمخشري[2]، وقال: "وعليه المحققون".

وقُدِّم المفعول "إياك" على الفعل في الموضعين؛ للاهتمام، ولئلا يتقدم ذِكرُ العبد والعبادة على المعبود[3]؛ كقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ﴾ [الأنعام: 164]، وقوله: ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾ [الزمر: 64].

ولئلا يتقدم ذِكر الاستعانة والمستعين على المستعان به جل وعلا؛ كقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].

وقُدِّم أيضًا لإفادة الحصر والاختصاص؛ لأن تقديم ما حقُّه التأخير يفيد الحصرَ والاختصاص؛ لأن في قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ تحقيقًا لمعنى "لا إله إلا الله"، ففي تقديم المعمول "إياك" في الموضعين نفيٌ للعبادة عن غير الله، ونفي للاستعانة بغيره.

وفي قوله: "نعبد" و"نستعين" إثبات العبادة والاستعانة له سبحانه.

قال ابن القيم في "مدارج السالكين"[4]: "فهو في قوة لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك.. مع أن في ضمير "إياك" من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي "إياك قصدت وأحببت" من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي، ما ليس في قولك: "قصدتك وأحببتك..".

وكرر الضمير "إياك" مرة أخرى للاهتمام، ولأن ذلك أفصح[5].

قال ابن القيم[6]: "وفي إعادة "إياك" مرة أخرى دلالة على تعلُّق هذه الأمور بكل من الفعلين، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلًا: "إياك أحب، وإياك أخاف" كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره، ما ليس في قوله: "إياك أحب وأخاف".

وفي قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ بعد الآيات الثلاث الأولى التفاتٌ من الغَيبة إلى الخِطاب؛ كقوله تعالى: ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإنسان: 21، 22][7].

وعكسه قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾ [يونس: 22].

والغرض العام من الالتفات في جميع المواضع التي ورد فيها هو تنبيه القارئ والمستمع؛ لأن انتقال الكلام من الغَيبة إلى الخطاب أو التكلُّم أو العكس ونحو ذلك، مما ينبه القارئ والمستمع، وأدعى للإصغاء، وأبعث على النشاط[8]، بخلاف ما إذا جاء الكلام على وتيرة واحدة، فإن القارئ أو المستمع قد يغفل أو يمل.

وهناك غرض خاص في كل التفات بكل موضع بحسبه، وقد يكون هذا الغرض ظاهرًا كما في قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾ [عبس: 1، 2]، ثم قال: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 3]، فقوله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾ التفات للخطاب بعد الغيبة في قوله: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾.

والغرض من مجيء الكلام أولًا بضمير الغيبة كراهيةُ مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فلم يقل: "عبست وتوليت أن جاءك الأعمى"، بينما خاطبه مواجهة بقوله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾؛ إذ لا غضاضة ولا محذور في مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65].

واختلف في الغرض الخاص من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ بعد الآيات الثلاث قبلها.

فقد قيل: إنه لما أثنى على الله، فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى؛ فلهذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[9].

وقيل: لما ذكر الحقيقَ بالحمد والثناء وصفاته العِظام، تعلَّق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء والعبادة والاستعانة، فخوطب ذلك المعلومُ المتميِّز بتلك الصفات، فقيل: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾؛ أي: ﴿ إِيَّاكَ ﴾ يا من هذه صفاتُه نخص بالعبادة والاستعانة[10]، والله أعلم.

﴿ نَعْبُدُ ﴾: العبادة في الأصل: التذلُّل والخضوع، ومنه سمي العبد عبدًا؛ لِذِلَّتِه وخضوعه، وسكينته وخشوعه، وانقياده لمولاه.

ومنه قولهم: بعير معبَّد؛ أي: مذلَّل بالركوب في الحوائج. قال طَرَفة بن العبد[11]:
إلى أن تحامَتْني العَشيرةُ كلُّها *** وأُفرِدتُ إفرادَ البعير المعبَّدِ
أي: المذلَّل.

ومنه قولهم: طريق معبَّد؛ أي: مذلَّل بكثرة وطئه بالأقدام.

قال طرفة بن العبد[12]:
تُباري عِتاقًا ناجياتٍ وأتبعت *** وظيفًا وظيفًا فوق مَوْر مُعَبـَّـدِ

فمعنى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ أي نخصك دون غيرك بأقصى غاية التذلل والخضوع لك محبةً وتعظيمًا وخوفًا.

والعبادة تُطلَق ويراد بها فعل العبادة؛ أي: التعبد، وهو التذلل والخضوع لله محبة وتعظيمًا، وتطلَق ويراد بها نفس العبادات، وهي بهذا الإطلاق: اسم جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة[13].

قال ابن القيم[14]: "وبني ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح، فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ حقًّا هم أصحابها.

فقول القلب هو اعتقاد ما أخبَر الله سبحانه به عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته، ولقائه على لسان رسله.

وقول اللسان الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه، والذب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره، وتبليغ أوامره.

وعمل القلب؛ كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، وعلى أقداره، والرضا به وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه، والطُّمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضُها أفرض من أعمال الجوارح، ومستحَبُّها أحَبُّ إلى الله من مستحَبِّها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة، أو قليل المنفعة.

وأعمال الجوارح كالصلاة والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك، فـ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ التزام لأحكام هذه الأربعة وإقرار بها".

وعلى هذا فكل ما أمر الله به، بل كل ما تعبد له به سبحانه وتعالى، فهو عبادة، سواء كان ذلك مما يجب فعله؛ كالصلاة والزكاة والحج والصيام ونحو ذلك، أو مما يجب تركه من المحرَّمات؛ كالربا والزنا والسرقة ونحو ذلك، أو مما يُستحَبُّ فعله؛ كالصدقة والإحسان وإماطة الأذى عن الطريق، أو مما يستحب تركه؛ كتدخل الإنسان فيما لا يعنيه.

كما يدخل في ذلك الأمورُ المباحة؛ كالأكل والشرب والنوم ونحو ذلك، فهذه المباحات مما يفعله الإنسان جِبِلَّةً، وهي مصلحة صرفة للنفس، إلا أن فعلها تقربًا إلى الله تعالى، وامتثالًا لأمره، وصيانة للنفس، وبهدف التقوِّي على طاعة الله تعالى، وإظهارًا لنعمته تعالى على العبد، كل ذلك عبادة لله تعالى.

عن عوف بن مالك بن نضلة الجشمي رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دُونٍ، فقال: ((ألك مالٌ؟))، قال: نعم، قال: ((من أيِّ المال؟))، قال: آتاني اللهُ من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: ((فإذا آتاك الله مالًا، فلْيُرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامتِه))[15].

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يُحِبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده))[16].

وبهذه النية والقصد الحسن تكون جميعُ أعمال العبد المباحة من عادات ونحوها عباداتٍ، بينما قد تصبح عبادات كثيرين أشبهَ شيء بالعادات؛ بسبب الغفلة، وعدم استحضار النية والقصد الحسن؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: "المُوَّفقون عاداتُهم عبادات، والمخذولون عباداتُهم عادات".

ولا بد لصحة العبادة من توفر شرطين:
الأول: الإخلاص لله تعالى؛ كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾: أي نخصك بالعبادة ونُخلِصها لك، ونتبرأ من الشرك وأهله ووسائله.

وقوله تعالى: ﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 2]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]، وقوله تعالى: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ [الزمر: 3].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرَكَ معي فيه غيري، ترَكتُه وشركه))[17].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات))[18].

والشرط الثاني: متابعة شرع الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))[19].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد))[20].

وذلك بأن تكون العبادة وفق ما شرع الله من حيث الجنس، والقدر، والصفة، والزمان، والمكان، والسبب؛ فمثلًا زكاة الفطر عبادة ولا بد أن يكون المُخرَجُ فيها من جنس ما أمَر الشرع بإخراجه، وهو الطعام، لا من الخضار، ولا بد من أن يكون المُخرَج عن الشخص الواحد بمقدار صاع على الصحيح.

وأما موافقة الشرع في الصفة، فبأن تكون العبادة على الصفة التي شرع الله؛ كالصلاة مثلًا ركوعها قبل سجودها، ولو عكس لَما صحَّت صلاته.

وأما الزمان، فبكون العبادة في وقتها كالصلاة مثلًا.

وأما المكان، فتكون العبادة في مكانها كذبح الهَدْي.

وأما السبب، فبأن يكون سبب العبادة قد وُجِد؛ كصلاة الكسوف لا تُصلى إلا عندما يحصل الكسوف أو الخسوف.

ويَنتظم الشرطينِ معًا في الدلالة قولُه تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [النساء: 125]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [لقمان: 22].

فالمراد بإسلام الوجه لله الإخلاص له في العبادة، والمراد بقوله: ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ أي: متَّبِع لما جاء عن الله، لا مبتدع.

وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وقال تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7، الملك: 2].

قال الفضيل بن عياض: "أي: أخلصه وأصوبه"[21].

وقد جعل الله تعالى العبودية وصفًا لأكمل خلقه وأحبهم إليه، وهم رسله وأنبياؤه عليهم السلام، كما جعلها وصفًا لمن اصطفاه من المؤمنين.

فوصف بها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل خلقه وخاتم رسله، في أشرف مقاماته، وهو مقام إنزال الكتاب عليه، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة: 23]، وقال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1].

ووصفه بها في مقام دعائه صلى الله عليه وسلم ربَّه، وعبادته له، ودعوته إليه، فقال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ﴾ [الجن: 19].

وأرشَدَه إلى القيام بالعبادة في أوقات الشدة والضيق، وأمره بالاستمرار عليها حتى الموت فقال: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 97 - 99].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تُطروني كما أَطْرَتِ النصارى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدُ الله ورسولُه))[22].

وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "قرأت في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله، عبدي ورسولي، سمَّيتُه المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر"[23].

كما وصف الله بها سائر أنبيائه ورسله، فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [ص: 45]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ﴾ [ص: 17]، وقال عن سليمان: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ ﴾ [ص: 41]، وقال تعالى عن المسيح: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ [الزخرف: 59]، وقال عنه وعن الملائكة: ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [النساء: 172]، وقال أيضًا عن الملائكة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 206]، وقال عنهم: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19، 20]، وقال عنهم: ﴿ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 26].

كما وصف الله بها الصالحين من المؤمنين، فقال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]، وقال تعالى: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾ [الإنسان: 6].

وجعل لهم البشارة المطلقة، فقال تعالى: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر: 17، 18].

كما جعل لهم الأمن المطلق، فقال تعالى: ﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الزخرف: 68، 69].

وعزل عنهم سلطان الشيطان، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42].

وجعل صلى الله عليه وسلم إحسان العبودية أعلى مراتب الدين، فقال في حديث جبريل وقد سأله عن الإحسان، فقال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[24].

[1] انظر: "مجموع الفتاوى" (1/ 89).

[2] في "الكشاف" (1/ 9)، وانظر: "البحر المحيط" (1/ 23)، "أنوار التنزيل" (1/ 9)، "الجدول في إعراب القرآن" (1/ 19).

[3] انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 145)، "مدارج السالكين" (1/ 102).

[4] (1/ 102).

[5] انظر: "جامع البيان" (1/ 164).

[6] في "مدارج السالكين" (1/ 103).

[7] انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 145)، "البحر المحيط" (1/ 24).

[8] انظر: "الكشاف" (1/ 10).

[9] انظر: "تفسير ابن كثير" (1/ 52).

[10] انظر: "الكشاف" (1/ 10).

[11] انظر: "شرح القصائد السبع الطوال" لأبي بكر بن الأنباري ص(191).

[12] ديوانه ص(11).
ومعنى تباري: تجاري وتسابق، والعِتاق: جمع عتيق، وهو كريم الأصل، وناجيات: مسرعات. والوظيف: من رسغ البعير إلى ركبتيه في يديه، وأما في رجليه فمن رسغيه إلى عرقوبيه. والمراد بالوظيف هنا: الخف. والمور: الطريق.

[13] انظر: "مجموع الفتاوى" (10/ 149).

[14] في "مدارج السالكين" (1/ 126).

[15] أخرجه أبو داود في اللباس - باب في غسل الثوب وفي الخلقان (4063) وصححه الألباني.

[16] أخرجه الترمذي في الأدب - ما جاء أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (2819)، وقال: "حديث حسن".

[17] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق - باب من أشرك في عمله غير الله (2985).

[18] أخرجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه - البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907).

[19] أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها - البخاري في الصلح - باب إذا اصطلحوا على صلح جَوْر فالصلح مردود (2697)، ومسلم في الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور (1718).

[20] أخرجه البخاري معلقًا في البيوع - باب النجش قبل الحديث (2142)، وأخرجه مسلم عن عائشة موصولًا في الأقضية (1718).

[21] انظر: "مجموع الفتاوى" (10/ 173). وقد ذكر ابن القيم أن الناس ينقسمون بالنسبة لهذين الأصلين، وهما الإخلاص والمتابعة، إلى أربعة أقسام: أحدها: أهل الإخلاص والمتابعة، وهم أهل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [الفاتحة: 5] حقيقة، والضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، والضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر، والضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله. انظر: "مدارج السالكين" (1/ 107 -109).

[22] أخرجه البخاري في الأنبياء - باب ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [مريم: 16] (3445)، وأحمد (1/ 23، 24، 47) - من حديث عمر رضي الله عنه.

[23] أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الفتح (4838).

[24] أخرجه من حديث عمر بن الخطاب - البخاري في الإيمان - باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم (50)، ومسلم في الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (1)، وأخرجه مسلم - أيضًا - من حديث أبي هريرة - الحديث (9).







الألوكة

ابو يحيى 24-02-2021 10:32 AM

رد: تفسير قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]
 
جزاك الله خير الجزاء


الساعة الآن 10:09 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

Ramdan √ BY: ! Omani ! © 2012
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
Forum Modifications Developed By Marco Mamdouh
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

جميع المواضيع والمُشاركات المطروحه في منتديات الحقلة تُعبّر عن ثقافة كاتبها ووجهة نظره , ولا تُمثل وجهة نظر الإدارة , حيث أن إدارة المنتدى لا تتحمل أدنى مسؤولية عن أي طرح يتم نشره في المنتدى

This Forum used Arshfny Mod by islam servant